الأربعاء، 26 فبراير 2014

ابن جني المصطلحات



اتفاق اللفظين واختلاف المعنيين في الحروف:
ويقصد ابن جني بهذا النوع الألفاظ التي تتفق حروفها في المفرد والجمع ولكن معانيها مختلفة، نحو كلمة: دلاص التي تستخدم للمفرد فيقال درع دلاص، وتجمع مكسرة: أدرع دلاص، ثم مثل للمفرد بألفاظ نحو: ناقة كِناز، وامرأة ضِناك، وبين أن ألف (دِلاص) للمفرد بمنزلة ألف كِناز وضِناك. وأما ألف الجمع في أدرع دِلاص، فهي بمنزلة الألف في ظِراف وشِراف، "وذلك لأن العرب كسرت فِعالاً على فِعال، كما كسرت فعيلاً على فِعال نحو كريم وكِرام، ولئيم ولِئام".
ويفسر ابن جني هذه الظاهرة بقوله: "وعذرها (يعني العرب) في ذلك أن فعيلاً أخت فِعال، ألا ترى أن كل واحدة منهما ثلاثية الأصل، وثالثها حرف لين، وقد اعتقبتا أيضاً على المعنى الواحد، نحو: كليب وكلاب، وعبيد وعباد"(35).
ب- اتفاق الحركات:
وينطبق ما قال ابن جني في الحروف على الحركات إذ يقول: "هذه الحال موجودة في الحركات وجدانها في الحروف". وجاء بأمثلة افتراضية بقوله: "وذلك كامرأة سميتها بحيثُ، وقبلُ، وبعدُ، فإنك قائل في رفعه: هذه حيث، وجاءتني قبل، وعندي بعد". وينبّه ابن جني على أن الضمة في الأصل هي للبناء، ولكنها تصير بعد التسمية ضمة إعراب. وهذا ينطبق على كل الكلم المبنية، نحو أين وكيف، "وكذلك لو سميت رجلاً بأمس".
ولكن ابن جني استثنى من هذه الألفاظ المبنية "هؤلاء" التي يرى أن كسر همزتها قبل التسمية وبعد التسمية سواء. وأما سبب هذا فهو "أن هؤلاء مما يجب بناؤه، وحكايته بعد التسمية به على ما كان من قبل التسمية، ألا ترى أنه اسم ضم إليه حرف فأشبه الجملة"(36).
ج- اتفاق السكون:
وهذا للألفاظ التي لا يتغير سكون أحد حروفها في حالتي الإفراد والجمع، نحو صنو للواحد، وصنوان للجمع، وقنو وقنوان. ويرى ابن جني أن سكون المفرد والجمع "مختلفان تقديراً" على الرغم من اتفاقهما لفظاً. ومثل لهذا الاختلاف التقديري بألفاظ في اللغة اختلف مفردها عن جمعها، نحو: شبث وبرق فإنها تجمع على شبثان وبرقان، فدل ذلك على اختلافهما. ولهذا يرى ابن جني أنه لا بد من اختلاف صِنْو وصِنْوان، وقِنْو وقِنْوان، لأن سكون الواحد غير سكون الجمع، وسكون الجمع ليس لسكون الواحد، بل هو "شيء أحدثته الجمعية". ولذلك وصف الفرق بين نوعي الجمع اللذين ذكرهما – أي شبثان وصنوان - بالنسبة إلى مفرديهما، بقوله: "فكما أن هذين مختلفان لفظاً (شبث وشبثان)، فكذلك ذانك السكونان (صِنْو وصِنْوان) هما مختلفان تقديراً"(37).
عدم النظير:
وهو عنوان باب في الخصائص يتابع فيه ابن جني رأي سيبويه في أنه "إذا دل الدليل فإنه لا يجب إيجاد النظير"، وهذا هو مذهب صاحب الكتاب الذي مثل على وزن (فعل) بكسر الفاء والعين بلفظة واحدة هي (إبل). وخلص ابن جني إلى أنه "لم يمنع الحكم بها عنده إن لم يكن لها نظير، لأن إيجاد النظير بعد قيام الدليل إنما هو للأنس به، لا للحاجة إليه"(38).
ويرى أحد الدارسين المحدثين أن مصطلح (النظير) من "المصطلحات التي وجدت عند علماء أصول النحو بعد سيبويه"، فقد استخدمه ابن السراج، وأكثر من استخدامه ابن جني مفرداً (النظير)، وجمعاً (النظائر) (39).
باب في فرق بين البدل والعوض:
والبدل والعوض مصطلحان يستخدمهما اللغويون في تفسير ما يقع في الألفاظ من تغيير وتبديل وتعويض. وجعل ابن جني هذا الباب توضيحاً لمن قد يقع في اللبس في التفريق بين المصطلحين. ويتضح من خلال الأمثلة وتفسيرها مواقع البدل ومواقع العوض، فمن ذلك فإن الألف من الفعل (قام) "بدل من الواو التي هي عين الفعل، ولا تقول فيها إنها عَوْض منها".
وأما العوض فهو من لفظ (عَوْض)، وهو الدهر ومعناه، كما في بيت الأعشى:
رضيعي لبان ثدي أم تقاسما                        بأشحم داج: عَوْض لا نتفرق
ومن أمثلة العوض التي يذكرها ابن جني: "التاء في (عدة) و (زنة) فهي عوض عن فاء الفعل، ولا تقول إنها بدل منها"، وكذلك الحال في ميم (اللهم) "إنها عوض من (يا) في أولها، ولا تقول: بدل..".
وقد قرر ابن جني في هذا الباب حقيقة "أن البدل أشبه بالمبدل منه من العوض بالمعوض منه. وإنما يقع البدل في موضع المبدل منه، والعوض لا يلزم فيه ذلك"(40).

مصطلح التجريد:
وعقد ابن جني للتجريد باباً نص في أوله أنه يقتدي به أثر شيخه أبي علي الفارسي الذي كان "به غرياً معنياً"، غير أنه لم يفرد له باباً في كتبه "ولكنه وسمه في بعض ألفاظه بهذه السمة، فاستقريتها منه، وأنقت لها".
وعرَّف ابن جني (التجريد) بأن "معناه أن العرب قد تعتقد أن في الشيء من نفسه معنى آخر، كأنه حقيقته ومحصوله، وقد يجري ذلك إلى ألفاظها لما عقدت عليه معانيها"(41).
ونقل ابن جني للتجريد مثالاً نسبه إلى سيبويه وهو: "أما أبوك فلك أب، أي لك منه أو به أو بمكانه أب". وذكر سيبويه هذا المثال في باب سماه (باب ما يختار فيه الرفع ويكون فيه الوجه في جميع اللغات)، وأشار محقق الكتاب إلى أن الرماني ترجم عنوان الباب بـ "باب اسم الجنس الجاري على طريقة أما كذا فكذا"(42).
ويدرك ابن جني أن ما ذكره سيبويه وشيوخه قد يشوبه شيء من عدم الوضوح فذكر أمثلة أخرى وفسرها ووضحها – على سمته وطريقته -، ومن ذلك قوله: لئن لقيت زيداً لتلقينّ منه الأسد، ولئن سألته لتسألنَّ منه البحر. "فظاهر هذا أن فيه من نفسه أسداً وبحراً، وهو عينه هو الأسد والبحر، لا أن هناك شيئاً منفصلاً عنه وممتازاً منه".
وزاد ابن جني (التجريد) توضيحاً فبين أن معناه كأن يجرد الإنسان من نفسه شخصاً آخر فيخاطبه، وأكثر ما يجيء هذا في الشعر، فقال: "وعلى هذا يخاطب الإنسان منهم نفسه، حتى كأنها تقابله أو تخاطبه، ومنه قول الأعشى:
وهل تطيق وداعاً أيها الرجل
وهو الرجل نفسه لا غيره". ثم مثل على التجريد ببعض القراءات القرآنية كما في قراءة قوله تعالى: "قال اعلم أن الله على كل شيء قدير"(43). (البقرة 259).
مصطلح تلاقي اللغة:
وموضوع تلاقي اللغة يعني ورود لفظين تشابهت حروفهما أو أوزانهما فتلاقت "في عرض اللغة من غير قصد لجمعها ولا إيثار لتقاودهما". وعزا ابن جني التنبّه لهذا اللون من الألفاظ إلى شيخه أبي علي الفارسي، فنقل عنه قوله: "في باب أجمع وجمعاء، وما يتبع ذلك من أكتع وكتعاء، وبقيته: إن هذا اتفاق وتوارد وقع في اللغة على غير ما كان في وزنه منها". وقصد أبو علي الفارسي بذلك أن "باب أفعل وفعلاء، إنما هو للصفات، وجميعها تجيء على هذا الوضع نكرات، نحو: أحمر وحمراء، وأصفر وصفراء... وأخرق وخرقاء. هذا كله صفات نكرات، فأما أجمع وجمعاء فاسمان معرفتان، وليسا بصفتين". وخلص الفارسي إلى حقيقة أن هذا إنما هو "اتفاق وقع بين هذه الكلم المؤكد بها".
وأقر ابن جني شيخه على ما أورده لهذا الاتفاق والتوارد، فسمى الباب الذي عقده لهذه الظاهرة اللغوية "بتلاقي اللغة"، وأضاف أمثلة أخرى من نحو قولهم في العلم: سلمان وسلمى، فهما أشبه بوزن (فَعْلان) الذي مؤنثه (فَعْلى)، ولكنه نبه إلى أن "فعلان الذي يقاوده فعلى إنما بابه الصفة كغضبان وغضبى وسكران وسكرى". ونفى ابن جني أن يكون سلمان من سلمى بمنزلة الصفات المذكورة، لأنهما ليستا "بصفتين ولا نكرتين.. غير أنهما كانا من لفظ واحد فتلاقيا في عرض اللغة من غير قصد لجمعهما، ولا إيثار لتقاودهما، ألا تراك لا تقول: هذا رجل سلمان، ولا امرأة سلمى، كما نقول: هذا سكران، وهذه سكرى، وهذا غضبان، وهذه غضبى"(44).
مصطلح السلب:
وجعل له ابن جني باباً في خصائصه، واعترف في تقديمه أن شيخه أبا علي الفارسي قد نبه عليه. ثم ذكر أن الأصل في الأفعال والأسماء المشتقة من الأفعال إثبات معناها لا سلبها، فلفظ قام إنما هو لإثبات القيام. فإذا "أردت نفي شيء منها ألحقته حرف النفي، فقلت: ما فعل، ولم يفعل، ولن يفعل، ولا تفعل، ونحو ذلك".
وأضاف ابن جني أن العرب "قد استعملوا ألفاظاً من كلامهم من الأفعال ومن الأسماء الضامنة لمعانيها، في سلب تلك المعاني لا إثباتها" ومثل على ذلك بتصريف (ع ج م) التي تأتي في اللغة "للإبهام وضدّ البيان" نحو: العجم الذين لا يفصحون، وعجم الزبيب لاستتاره".. وغير ذلك، ولكن هذه الأصول إذا أضيف إليها زيادة بحرف أو أكثر فقد يتحول المعنى من الإثبات إلى النفي، فمادة    (ع ج م) إذا زيد عليها الألف/ الهمزة في أولها آل معناها إلى ضده، فصار المعنى: إزالة الإبهام.
ولا تقتصر الزيادة على الهمزة فحسب، بل قد نضعف عين الكلمة نحو مادة (م ر ض)، فإذا قلت: "مرضت الرجل أي داويته من مرضه حتى أزلته عنه أو لتزيله عنه" فإنك تثبت عكس المعنى الأصلي للمادة وهي الدلالة على المرض(45).
مصطلح الإتباع:
عرف اللغويون العرب القدامى الإتباع في الألفاظ وفي الحركات، وانصب اهتمام النحاة من لدن سيبويه ومن جاؤوا بعده بدراسة الإتباع المسمى إتباع الحركات. ولعل أول من ألف في الإتباع في الألفاظ أحمد بن فارس في كتابه الموسوم (الإتباع والمزاوجة)، وقد عرف الإتباع بقوله: "هو أن تتبع الكلمةُ الكلمةَ على وزنها أو رويها إشباعاً وتأكيداً". وجعل ابن فارس الإتباع – وقرن به المزاوجة – على وجهين:
أحدهما: أن تكون كلمتان متواليتان على رويّ واحد.
والثاني: أن يختلف الرويان.
هذا من حيث الشكل، وأما من حيث المعنى فهو ضربان: أحدهما: أن تكون الكلمة الثانية ذات معنى، والثاني: أن تكون الثانية غير واضحة المعنى ولا بينة الاشتقاق، إلا أنها كالإتباع لما قبلها(46).
ومن الأمثلة على هذا الإتباع ما رُوي عن الكسائي أنه فسر ما نقله أبو عبيد في غريب الحديث "في قوله صلى الله عليه وسلم في الشبرم: إنه حار يار, "والشبرم هو ضرب من الشيح، قال الكسائي في تفسيره: "حار من الحرارة، ويار: إتباع".
ويذكر السيوطي أن هذا إنما "سمي إتباعاً، لأن الكلمة الثانية إنما هي تابعة للأولى على وجه التوكيد لها، وليس يتكلم بالثانية منفردة، فلهذا قيل: إتباع"(47).
وأما الإتباع الذي ذكره ابن جني فهو ما تابع فيه ما قال النحاة منذ سيبويه: أي: إتباع الحركات. ويظهر من كلام ابن جني مقارنة بما ورد في كتاب سيبويه أن كلامهما متقارب إلى حد كبير، غير أن سيبويه لم يضع للموضوع مصطلح (الإتباع)، فقد ذكر في باب سماه: "باب الحروف الستة إذا كان واحدٌ منها عيناً، وكانت الفاء قبلها مفتوحة، وكانت فعلاً"، ما يلي: فإن الفاء في وزن (فعيل) تكسر في لغة تميم، ويقصد سيبويه بالحروف الستة: الحروف الحلقية، ومثل لها بالألفاظ الآتية: لِئيم، وشِهيد، وسِعيد، ونِحيف، ورِغيف, وبِخيل، وبِئيس".
وفسر سيبويه سبب كسر الفاء فيها: "لأنه ليس في الكلام فَعَيْل، وكراهية أن يلتبس فعل بفعل فيخرج من هذه الحروف فعل، فلزمها الكسر ههنا، وكان أقرب الأشياء الفتح، فكسرت ما قبلها حيث لزمها الكسر، وكان ذلك أخف عليهم حيث كانت الكسرة تشبه الألف، فأرادوا أن يكون العمل من وجه واحد"(48).
وروى ابن جني عن الأخفش (أبي الحسن ت 215هـ) ذكره مصطلح الإتباع في قوله تعليقاً على أن العرب كانت قديماً تقول: مررت بأخويك وأخواك جميعا.. "ولغتهم عند أبي الحسن أضعف من (هذا جحر ضب خرب)، قال: لأنه كثر عنهم الإتباع: نحو: شُدُّ وضُرُّ وبابه، فشبه هذا به"(49).
وأما ابن جني، فيبدو أنه أقر بما أورده عن شيوخه البصريين، ولكنه يضيف على ما قدموا فبين "أن علة الإتباع في (نِقيذ) وإن عري أن تكون عينه حلقية قرب القاف من الخاء والغين"، ويقصد بذلك ابن جني ما أورده سيبويه من أمثلة على وزن فعيل وجاءت العين حرفاً حلقياً نحو: النِّخير والرِّغيف. وذهب ابن جني إلى جواز "أن تشبه القاف لقربها من حروف الحلق بها، كما شبه من أخفى النون عند الخاء والغين إياهما بحروف الفم، فالنقيذ في الإتباع كالمنخل والمنغل فيمن أخفى النون"(50).
مصطلح الجوار:
وهو مصطلح يعرف عند الدارسين بمصطلح (الحمل على الجوار)، وقد ذكره سيبويه في (باب ما يجرى على الموضع لا على الاسم الذي قبله)، فقال: "وقد حملهم قرب الجوار على أن جروا "هذا جحر ضب خرب" ونحوه(51).
وجاء ابن جني فسمى الباب (باب في الجوار) وقد جعله أقساماً، وهو على ضربين: أحدهما تجاور الألفاظ، والآخر تجاور الأحوال، فأما تجاور الألفاظ فهو قسمان: أحدهما في المتصل، والآخر في المنفصل.
أ- تجاور المتصل: وذلك نحو: تجاور العين واللام بحملها على حكمها، فقد قالوا في صوم: صيم.
ويقر ابن جني أن سيبويه قد ذكر هذا القسم ولكنه لم يذكر المصطلح في باب (هذا باب تقلب الواو فيه ياءً لا لياء قبلها ساكنة، ولا لسكونها وبعدها ياء) (52).
وذكر ابن جني من الأمثلة لجوار الحركات في المتصل قولهم: "هذا بكُر، ومررت ببكِر".
ب- تجاور الألفاظ في المنفصل، نحو المثال المشهور: "هذا جحر ضبّ خرب"(53).
وأما تجاور الأحوال فهو يتعلق بأزمنة الظروف، ومثل له ابن جني بقوله: "أحسنت إليه إذ أطاعني.. ويرى أن  المعنى أنك لم تحسن إليه في أول وقت الطاعة، فإن ما بعد الظرف (إذ) وهو الفعل (أطاع) زمنه يختلف عن زمن الإحسان... ويذهب ابن جني إلى أن تجاور الأحوال "غريب" وذلك أن "من شرط الفعل إذا نصب ظرفاً أن يكون واقعاً فيه أو في بعضه كقولك: صمت يوماً، وسرت فرسخاً... فكل واحد من هذه الأفعال واقع في الظرف الذي نصبه لا محالة، ونحن نعلم أنه لم يحسن إليه إلا بعد أن أطاعه، ولكن لما كان الثاني مسبباً عن الأول وتالياً له، فاقتربت الحالان، وتجاور الزمانان، وصار الإحسان كأنه إنما هو والطاعة في زمان واحد، فعمل الإحسان في الزمان الذي يجاور وقته، كما يعمل في الزمان الواقع فيه هو نفسه"(54).
مصطلح التقريب:
لم يفرد ابن جني للتقريب باباً مستقلاً، ولم يعرفه مصطلحاً لظاهرة لغوية، ولكنه ذكره في أثناء تعريفه ظاهرة (الإدغام)، فقال: في تعريفه: "تقريب صوت من صوت". وهو ضربان: "أحدهما أن يلتقي المثلان على الأحكام التي عليها الإدغام، فيدغم الأول في الآخر، والأول من الحرفين في ذلك على ضربين: ساكن ومتحرك، فالمدغم الساكن الأصل كطاء قطّع، وكاف سكّر، والمتحرك نحو: دال شدّ. والآخر: أن يلتقي المثلان على الأحكام التي يسوغ معها الإدغام، فتقلب أحدهما إلى لفظ صاحبه فتدغمه فيه، نحو: (ودّ) في اللغة التميمية (وأصله وتد)، ونحو امّحى، وامّاز، واثّاقل. وهذا النوع الثاني الذي هو عنده المسمى (التقريب) هو الذي قال عنه: "المعنى الجامع لهذا كله تقريب الصوت من الصوت"(55).
وذكر ابن جني أنواعاً أخرى من (التقريب)، ومن ذلك ما سماه الإدغام الأصغر، وهو عنده "تقريب الحرف من الحرف وإدناؤه منه من غير إدغام يكون هناك". ومن ضروبه:
أ- الإمالة التي "وقعت في الكلام لتقريب الصوت من الصوت، نحو كلمة: (عالم) التي "قربت فتحة العين من عالم إلى كسرة اللام منه بأن نحوت بالفتحة نحو الكسرة، فأملت الألف إلى الياء"(56).
ب- وضرب آخر من (الإدغام الأصغر) الذي هو "تقريب من غير إدغام" في الألفاظ التي هي على وزن (افتعل) إذا كانت فاؤها صاداً أو ضاداً أو طاءً أو ظاءً: "فتقلب تاؤه طاءً، وذلك نحو" اصطبر، واضطرب، واطرد واظطلم".
ج- وضرب آخر اجتمع فيه الإدغام مع التقريب، نحو لفظة (ست) التي أصلها (سدس)، فقد قربوا السين من الدال بأن قلبوها تاءً، فصارت (سدت) فهذا تقريب لغير إدغام، ثم إنهم فيما بعد أبدلوا الدال تاءً لقربها منها إرادة الإدغام، فقالوا: ست، وقد سمى ابن جني التغيير الأول تقريباً من غير إدغام. وأما التغيير الثاني فمقصود به الإدغام(57).
د- تقريب الحركة: ومنه تقريب الصوت من الصوت مع حروف الحلق، نحو: شعير وبعير ورغيف، وهذا التقريب هو الذي ذكره في موضوع (الإتباع) ومنه أيضاً قراءة بعضهم في الفاتحة: الحمد لله، والحمد لله، بضم اللام من لفظ الجلالة في الأولى، وكسرها في الثانية(58).
هـ- تقريب الحرف من الحرف: وهو ما يسمى عند اللغويين (الإبدال)، كما في قولهم في مصدر: مزدر، وفي التصدير، التزدير.
و- تقريب الحرف من الحرف من الإشمام، وهو من الإبدال إلا أنه ليس إبدالاً تاماً، نحو قول العرب في المثل: "لم يحرم من فزد له"، وأصله، فصد له، فقد أسكنت الصاد "فلما سكنت الصاد فضعفت به وجاورت الصاد – وهي مهموسة- الدال – وهي مجهورة – قربت منها بأن أُشمت شيئاً من لفظ الزاي المقاربة للدال بالجهر".
وذكر ابن جني أن لهذه الظاهرة نظائر في اللغة، فقالوا: ضُرْبَ والأصل فيه: ضُرِبَ(59).
ز- ومن أنواع التقريب التي ذكرها ابن جني ما سماه (إضعاف الحركة)، ويعني بذلك أنه إذا ضعفت الحركة قربت "بذلك من السكون، نحو: "حيي، وأحيي، وأعيي، فهو، وإن كان مخفى، بوزنه محركاً".
ح- التقريب على سبيل الروم:
والروم على جهة التقريب – أي تقريب الحركة – "هي كالإهابة بالساكن نحو الحركة، وهو لذلك ضرب من المضارعة، وأخفى منها الإشمام. لأنه للعين لا للأذن"(60).
ومن المعلوم عند علماء القراءات أن الروم هو اختلاس الحركة أي عدم نطقها كاملة واضحة وهو للأذن، وأما الإشمام فهو للعين في الضم خاصة: تضم الشفتين كأنك تنطق ضمة ولكن من دون إحداث صوت الضمة.
وقد نبه ابن جني إلى مواضع التقريب الذي يجري مجرى الإدغام ":مما قرب فيه الصوت من الصوت"، ولكنه ليس إدغاماً تامّاً, واستخدم له مصطلح (التقريب).
وتجدر الإشارة إلى أن ابن جني قد ذكر مصطلحي الإشمام والروم في باب (الساكن والمتحرك) الذي أورد فيه بعض المصطلحات الصوتية، ولكنه لم يعرف هذه المصطلحات تعريفاً شافياً، بل كان يذكرها ويبين ما يحدث فيها من تقريب في الأصوات – أصوات الحروف أو الحركات – كما في قوله في بيان الفرق بين الإشمام والروم: "فأما الإشمام فإنه للعين دون الأذن، لكن روم الحركة يكاد الحرف يكون به متحركاً، ألا تراك تفصل به بين المذكر والمؤنث في قولك في الوقف أنتَ وأنتِ، فلولا أن هناك صوتاً لما وجدت فصلاً"(61).
ابتداع المصطلح اللغوي ودلالته لدى ابن جني:
لقد بلغ من عناية ابن جني بالمصطلح أنه بدأ أبواب كتابه الخصائص بعد التقديم – بباب (القول على الفصل بين الكلام والقول)، بأن جعل الكلام والقول مصطلحين قد يخلط الناس بينهما. وقد أفصح في بداية هذا الباب عن منهجه في تناول المصطلحين بقوله: "ولنقدم أمام القول على فرق بينهما، طرفاً من ذكر أحوال تصاريفهما، واشتقاقهما، مع تقلب حروفهما، فإن هذا موضع يتجاوز قدر الاشتقاق، ويعلوه إلى ما فوقه". ووصف ابن جني منهجه الذي أدرك أنه جديد على قارئه، فيخاطبه قائلاً: "وستراه فتجده طريقاً غريباً، ومسلكاً من هذه اللغة الشريفة عجيباً"(62).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق