الجمعة، 21 فبراير 2014

دور المصارف الإسلامية في التنمية



المصارف الإسلامية ودورها في التنمية

اولاً : نشأة المصارف التجارية في العالم الإسلامي :
كانت المجتمعات الإسلامية الأولى في زمن الخلافة الإسلامية تتسم بالانقياد تجاه أوامر الدين الحنيف في كل شيء ، وتم وضع الأسس الصحيحة لهذه اللبنة المتكاملة بشكل لا يدعو للريبة ، وكانت المعاملات المالية والاقتصادية تعج بالنشاط على جميع أصعدتها . ولكن الذي حصل هو بدء مرحلة جديدة في عهد التاريخ الإسلامي ، ظهرت تلك المرحلة عقب انهيار الخلافة العثمانية في أوائل القرن السابق ، ذلك الانهيار الذي حصل على أيدي المستعمر القادم من الغرب في الحرب العالمية الأولى ، حيث تقاسمت الدول المنتصرة في الحرب ، الأملاك المالية للدولة العثمانية وهي نفسها أملاك الخلافة الإسلامية الممتدة على مدى مئات السنين([1]).
وفي هذا الوقت بدأت مرحلة ظهور الاستعمار والذي كان فيما بعد أساس التخلف الذي حل على الأمة الإسلامية ، وأدى ذلك نحو انحدارها إلى انحطاط بعد رقي والى جهالة بعد علم والى ضعف بعد قوة والى تشتت بعد وحدة ، فقد جهز ذلك الاستعمار كل قواه لأجل سلخ الأمة الإسلامية من واقعها ، ومن بين الأساليب التي انتهجها في عملية امتصاص ونهب الموارد المالية  لتلك البلدان ، هو نشر المصارف الربوية أو التجارية في العالم الإسلامي .
ولهذا يجب أن نلقي نظرة متكاملة وموجزة عن تاريخ ونشأة المصارف التجارية في العالم الغربي ، فقد كان أول ظهور للمصارف التجارية في المدن الإيطالية الشمالية ، مدن ميلانو والبندقية وجنوا وفلورنسا ، والتي كانت تتميز بازدهار ونمو أنشطتها التجارية في أوروبا خلال القرن الثاني عشر الميلادي([2]).
لقد كان " مصرف البندقية " (  (The Bank of Veniceأول مصرف تجاري منظم ، والذي تأسس عام 1157م إذ كان يقوم بعملية قبول الودائع من جميع شرائح المجتمع (الأفراد والهيئات ) ، وكذلك يقدم القروض للتجار والمستثمرين([3])، والفضل في ذلك يعود إلى الصاغة (Goldsmiths) والصيارفة (Money Changers) في مدن إقليم لومبارديا في شمال إيطاليا ، والذين اكتسبوا ثقة المتعاملين معهم حينما بدؤوا في قبول الودائع من الأفراد والتجار بغية المحافظة عليها من الضياع والسرقة . هذا الوضع الجديد لدى الصيارفة والصاغة المتمثل بقبولهم الودائع أدى إلى ظهور وتنامي أفكار حديثة لديهم ، فنتج عن تلك الأفكار خطة في تشغيل واستثمار ما لديهم من ودائع من خلال نظام إقراض بعض التجار ، والحصول على فوائد مقابل تلك القروض ، مع الاحتفاظ باحتياطي لسد أي طلبات سحب طارئة من قبل أصحاب الودائع.
هكذا نشأت فكرة المصارف التجارية وتطورت الأعمال المصرفية وتنوعت وأصبحت مؤسساتٍ تمويلية هدفها الأول هو الربح ، ثم تبعها بعد فترة طويلة من الزمن إنشاءُ أول مصرف حكومي بالمفهوم الحديث في مدينة البندقية عام 1587 ، وفي عام 1609م تأسس " مصرف أمستردام" ( (The Bank of Amsterdamبعد أن أصبحت هولندا مركزاً مالياً ومصرفياً منافساً للمصارف الإيطالية([4]).
وبدأ في وقت لاحق ظهور المصارف المركزية([5])، ففي عام 1668 تأسس "مصرف السويد " (The Bank of Sweden) كأقدم المصارف المركزية الرائدة في العالم ، ثم جاء تباعاً " مصرف إنكلترا" (England  (The Bank of الذي أُنشِئ في عام 1694 ، وحظي ذلك المصرف بشهرة كبيرة بين المصارف المركزية عندما منحته الحكومة حق الاحتكار في إصدار النقد عام 1833 ، وأصبح لاحقاً يقوم بالوظائف الكاملة كمصرف مركزي بموجب التشريع الذي صدر عام 1844 ، وتميز بتلقي الودائع الحكومية وتقديم الخدمات المصرفية المتنوعة لتلبية احتياجات الحكومة . ثم توالت وازدادت تلك المصارف في أوروبا بعد أن انتشرت الثورة الصناعية فيها خلال القرن التاسع عشر ، وأخذت تُطور أعمالها المصرفية ، ونشأت عدةُ مصارفَ كبيرة الحجم على شكل شركات مساهمة لتوفير الاحتياجات المالية لقطاعي الصناعة والتجارة والقطاعات الأخرى .
وامتد زحف تلك المصارف ليقتحم المؤسسات المالية الإسلامية ، فكان أول ظهور لها في البلاد الإسلامية عام 1898 ، عندما أنشئ المصرف المصري في مصر برأس مال قدره (500000) خمسمائة ألف جنيه إسترليني ، وقد ترأس هذا المصرف (طلعت حرب) الذي قام بالاستثمار الصناعي في النسيج والقطن والحديد([6])، بعدها أخذت المصارف تنتشر كالنار في الهشيم في البلدان العربية والإسلامية .
وبذلك فقد تحول الاستعمار العسكري بعد رحيله إلى استعمار اقتصادي لإدارة جميع الموارد الطبيعية والثروات ، وكان يشكل النظام المالي للمسلمين عبر مؤسساته المالية المصرفية التي أصبحت تحتل الصدارة في توجيه دفة الاقتصاد الداخلي وإخضاعه لتبعيته والدوران في فلكه([7]). وتمكنوا من خلال هذه المصارف أن ينشئوا عقلية عامة بين جماهير الدول الإسلامية ، بأن هذه المصارف تقوم على نظام طبيعي وعلى أساس صحيح لا تشوبه أي شائبة ، فأصبحت هذه العقلية خاضعة لهذه المعتقدات ، وأغرقت تلك المصارف معها المجتمعات الإسلامية في مستنقع المحرمات الذي شددت الشريعة الإسلامية على النهي عن التعامل به ، وبذلك أنجزت الدول الاستعمارية إحدى أهدافها الأساسية بالسيطرة اقتصادياً على الدول الإسلامية من خلال منظومة كبيرة من المصارف والمؤسسات التمويلية ، فكانت المصارف التجارية في بلدان العالم الاسلامي مجرد فروع للمصارف التجارية في الغرب وتقليد لها([8]).أي أن المصارف الفرعية التي أنشأت في المستعمرات  أصبحت مرتبطة بالمصارف الأصلية )الأم( الموجودة في دول الاستعمار.
في الجانب الآخر نجد أن البلدان الإسلامية تقبلت هذا النظام الذي فرضه المستعمر وتقبلت فكرة المصارف التجارية الربوية بمحض إرادتها أو مجبرة عليه كواقع فرضه المثلث الربوي )صندوق النقد الدولي ، والبنك الدولي للإنشاء  والتعمير ،واتفاقية الجات والتي خلفتها منظمة التجارة العالمية(([9])، ونجد أن هذه المنظمات الثلاث لا يمكن التعامل معها إلا من خلال الاستسلام لقوانينها المخالفة للشريعة الإسلامية ومصلحة البلدان الإسلامية والنامية على حد سواء ، وأن هذا النظام شبيه بالنظام الذي كان يُمارس في أيام الجاهلية  قبل وصول الإسلام ، ولكنَّ هذا النظام الحالي امتاز عن النظام في الجاهلية بأطر وتقنيات الحداثة والتنظيم التي عرفها العالم الغربي .
وهذا النظام المصرفي العالمي الغربي ، عرف كيف يتغلغل في داخل أقنية المجتمعات الإسلامية . والأهم من ذلك كله أنهم وجدوا من يروج من علماء الأمة الإسلامية لتلك الأفكار الخارجة عن إطار الشريعة الإسلامية فهناك مجموعة من علماء المسلمين حللوا الفوائد الموجودة في المصارف وقالوا إنها من الحلال الشرعي .
فقد سمعنا من بعضهم تفريقهم بين الفائدة المركبة والفائدة البسيطة بتحريم الأولى ، وتحليل الثانية . وهذا ما وجدناه في كلام الدكتور عبد الرزاق السنهوري فقد جاء فيه قوله : (إن هناك فرقًا ما بين المقترض والمقرض في المعاملات المالية الخاصة في المصارف . ذلك أن المقترض في المصارف هو الجانب القوي ، والمقرض هو الجانب الضعيف الذي تجب له الحماية ، وما دام رأس المال ليس ملك الدولة بل هو ملك الفرد أو دخله بعمله وجهده ، فمن حقه أن لا يظلم فيه ولا يظلم ، ما دامت الحاجة قائمة إلى كل ذلك ، فإن فائدة رأس المال في الحدود المذكورة تكون جائزة استثناء من أصل التحريم) ([10]).
وفي مكان آخر كان هناك دفاع عن معاملات المصارف التجارية ، فقد أصدر مجمع البحوث الإسلامية في مصر عام 1989 فتوى([11])عن مفتي الأزهر بقوله : إن ما تقوم به المصارف الربوية ( التي لا تصف نفسها بالإسلامية ) من معاملات تسميها ( إسلامية ) هي (من الحلال المتفق عليه) . وكان رد الشيخ يوسف القرضاوي على تلك الفتوى حازماً بقوله: (هذا غير مُسلّم ، فإن من العلماء الكثيرين لا يزالون يشككون في شرعية هذه المعاملات ، التي يقوم بها بنك لا يلزمه قانونه ونظامه باجتناب الربا ، ولا يفرض عليه رقابة شرعية ، ولا يتأكد عميله من وجود ذمة مالية مستقلة للمال الحلال ، فكان الأَولى أن يدرج ذلك في المختلف فيه ، ويرجح المفتي ما يراه تبعاً لما تبين له من دلائل)([12]).
ومنذ دخول هذه المصارف بلاد المسلمين ، تصدى لها جمع غفير من علماء الأمة ، وكانت لهم ردود فعل متباينة ، وأوضحوا للقاصي والداني أنهم على استعداد للوقوف بوجه المعاملات الدخيلة المصرفية التي تعرض المجتمع لخطر داهم ، وكان من بينهم مشايخ الإسلام في الدولة العثمانية وعلماؤها ، وفي مصر كان هناك الشيخ محمد عبده ورشيد رضا وغيرهم كثير. وفي حقيقة نابعة عن رؤية الإسلام الواقعية تجاه المصارف الربوية قال سيد قطب : ( أن الإسلام حين يتاح له أن ينظم الحياة وفق تصوره ومنهجه الخاص ، لن يحتاج عند إلغاء التعامل الربوي إلى إلغاء المؤسسات والأجهزة اللازمة لنمو الحياة الاقتصادية العصرية نموها الطبيعي السليم، ولكنه فقط سيطهرها من لوثة الربا ودنسه ، ثم يتركها تعمل وفق قواعد أخرى سليمة ، وفي أول هذه المؤسسات والأجهزة ؛ المصارف والشركات وما إليها من مؤسسات الاقتصاد الحديث )([13]).
وفي باكستان قام فيها الشيخ العلاَّمة أبو الأعلى المودودي بنشر عدة مقالات في مجلة خاصة اسمها ( ترجمان القرآن ) في سنة 1973 ، وكان فيها التبيين واضحاً بخصوص حرمة المعاملات الصادرة عن المصارف التجارية ، لاشتمالها على الربا([14]) ، وهناك كثير من الفتاوى والدراسات والمقالات العلمية التي أكدت على مبدأ تحريم المعاملات الربوية في المصارف التجارية التي ترعرعت في البلدان الإسلامية .
وكان ظهور المصارف الإسلامية ـ بكل ما تحمله من أفكار وصيغ وأساليب تمويل ـ رداً قوّياً على هذه المصارف التجارية ، ولكن بالرغم من مضي أكثر من نصف قرن على التوجه العام لإنشاء المؤسسات والمصارف الإسلامية  كبديل إسلامي تجاه المد العاصف من المصارف الغربية ، إلا أننا لا نجد من بين الدول الإسلامية سوى محاولات قليلة استجابت لهذا التوجه ، والعلة في ذلك  هي أن تلك المصارف التجارية التي أنشأها الاستعمار وأرسى قواعدها عند دخوله العالم الإسلامي عرفت كيف تُحكم جذورها في المجتمعات والبلدان الإسلامية ، حتى بعد زوال الوجود العسكري وانزياح مؤثراته القابعة .
ومن أجل الوصول إلى الغاية المثلى بالتخلص من التبعية المصرفية تلك ، يستوجب التحرر من هذه الاستحكامات التي وضعها المستعمر كخيار وحيد لإنقاذ المجتمعات الإسلامية من ذلك المد ، ولكن ذلك الخيار يحتاج إلى أشواط كبيرة من النمو والرقي والحداثة والتحسين والتطور والاستقلال بالقرارات الاقتصادية ، لكي تتسنى في ذلك الحين القدرة على التحول إلى الحرية الكاملة في الحصول على الفرصة الحقيقية للوصول إلى التنمية الشاملة في كل قطاعات المجتمع ، وبالتالي سيتكون نظام مصرفي عالمي حسب الرؤية والنظرة الإسلامية  للتنمية .



[1])) تأريخ الإمبراطورية العثمانية ، محمود علي عامر ، دار الصفدي ، دمشق ، ط1، 2004 ، ص234.
([2])                أساسيات العمل المصرفي الاسلامي ، محمود حسن صوان ، دار وائل ، عمان ، ط1، 2001 ، ص19.
([3])                المصارف الإسلامية والرقابة الشرعية ، شامل شاهين ، دار الأنصاري ، حلب ، ط1، 2008 ، ص39.
([4])                أساسيات العمل المصرفي الإسلامي ، محمود صوان ، ص20،19.
([5])                Money and Banking ,Steiner , w.h.and Shapiro, Eli , Henry Holt&co., (pp.245_248),New York, 1953.
 ([6])الشامل ، محمود عبد الكريم إرشيد ، دار النفائس ، الأردن ،   ط2 ، 2007، ص11.
(1) التحديات والحلول أمام النظام المصرفي الإسلامي ، محسن آل عصفور ، http://www.al-asfoor.org/?id=494

[8])) المعاملات المالية المعاصرة في الفقه الإسلامي ، محمد عثمان شبير ، دار النفائس ، عمان ، 1996 ،ص212.
([9])  ثر سياسات منظمة التجارة العالمية في صادرات مجموعة من البلدان النامية ، عمر هشام صباح الفخري ،  رسالة ماجستير ، كلية الإدارة والاقتصاد ، جامعة الموصل ، ، 2006 ، ص1.
[10]))  مصادر الحق في الفقه الاسلامي ، عبد الرزاق السنهوري ، مكتبة الحلبي الحقوقية ، بيروت ، الطبعة الأولى ، 1998 ، ج2 ، ص133.
[11])) مجمع البحوث الإسلامية في مصر قام باستصدار قرار يعتبر ربا البنوك حلال ، و كانت جلسة المجمع التي أجازت فوائد البنوك الربوية قد ضمت عدد من علماء  الأزهر ، الرئيسين منهم : الدكتور محمد سيد طنطاوي ، الدكتور محمود حمدي زقزوق ، الدكتور عمر هاشم ، الدكتور أحمد الطيب ، والدكتور محمد الراوي .
(3)  فوائد البنوك ، يوسف القرضاوي ، مؤسسة الرسالة  ، بيروت ، ط2 ، 2001 ، ص69.





)1 )في ظلال القرآن ، سيد قطب ، ج3/322.
(2 ) أنظر  المصارف الاسلامية والرقابة الشرعية ، شامل شاهين ، ص40.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق