الجمعة، 21 فبراير 2014

المعايير الشرعية للقرض الحسن



المعايير الشرعية للقرض الحسن :
على الرغم من الاتفاق حول طبيعة القرض الحسن من ناحية الآداب الشرعية العامة، إلا أن هناك إشكالية مازالت مفتوحة على مستوى المجامع الشرعية المعاصرة بشأن تحديد ماهية القرض الربوي وحيثياته في ظل النظم النقدية المعاصرة بصفة عامة والنظام النقدي الورقي بصفة خاصة([1]) .
ولذا رأينا ضرورة التحديد المبدئي لعدد من المعايير الشرعية المنصوص عليها في القرآن الكريم والسنة الشريفة، والتي حظيت بالإجماع الفقهي القديم والمعاصر، ويمكن حصر أهم هذه المعايير في الآتي:
1 - أن القرض الحسن مبادلة مالية (نقدية أو عينية) لا يمكن إسنادها إلى معايير السوق (كما في التعاقدات البيعية)، واختلاف المعايير هنا يؤكد اختلاف الهدف والإطار في كليهما، ومن النصوص الشرعية والقواعد الفقهية في ذلك نجد في القرآن الكريم قوله تعالى:(الّذِينَ يَأْكُلُونَ الرّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ الْمَسّ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَالُوَاْ إِنّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرّبَا وَأَحَلّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرّمَ الرّبَا فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مّنْ رّبّهِ فَانْتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة - 275]، وقوله عز وجل : (يَمْحَقُ اللّهُ الْرّبَا وَيُرْبِي الصّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ كُلّ كَفّارٍ أَثِيمٍ) [البقرة - 276] .
فالبيوع عقود تعمل على أسس ومعايير الإطار التجاري على المستويين الفني (طبيعة السوق، جودة السلعة، وحجم المعروض المتاح وحجم الطلب ...) والأخلاقي (أخلاقيات السوق من تحريم للغش  والاحتكار والغرر وما شابه ذلك)، كما أن الهدف من الإطار التجاري مع الناس هو الربح المشروع .
كما أنه على مستوى النصوص النبوية والاجتهادات الفقهية نجد قوله e " أفضل الكسب عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور"([2])، أي الذي لا غش فيه ولا خيانة، وكذلك ما رواه البخاري عن عروة البازقي أنه قال " بعثني رسول الله e بدينار لأشتري له به شاة، فاشتريت له شاتين، بعت إحداهما بدينار وجئته بدينار وشاة، فقال لي : بارك الله في صفقة يمينك([3]) .
ومن الاجتهادات الفقهية نجد : جواز البيع العاجل الفوري والآجل وجواز أن يكون بعضه مؤجلاً وبعضه معجلاً، كما يجوز للبائع أن يزيد من الثمن في حال البيع الآجل مقارنة بالبيع الفوري، وذلك لأن للأجل حصة في الثمن([4])، وهذا لا يمكن وجوده شرعاً في حالة القرض الحسن وإلا أصبح من القروض الربوية، نظراً لاختلاف الهدف والإطار الذي يدخل فيه مقارنة بعالم التجارة وما تتضمنه من بيع وشراء ووساطات مالية وغير ذلك مما عرف قديماً وما هو كان في النظم التجارية المعاصرة .
2 – أن معيار التراضي يعتبر (مقبولاً) شرعاً بشأن تحديد رهن مكافئ أو سند كتابي للقرض، وكذلك تحديد أجل السداد في حين أن التراضي يكون غير معتبر شرعاً في اشتراط أي زيادة أو نقص عن رأس المال مثلاً كان أو القيمة حسب ما إذا كان القرض مما يمكن رد مثله أو قيمته، فلا عبرة للتراضي على الربا أو غيره من المحرمات، فهذا كله حرام شرعاً بالنص والإجماع([5]).
وعلى ذلك يمكن القول إن التراضي معيار مقيد فيما يتعلق بالأجل والمثلية والرهن بالنسبة إلى الديون أو القروض المشروعة (الحسنة) في الإطار التكافلي، في حين يمكن القول أن التراضي معيار عام أو مطلق في العقود المالية البيعية أو التجارية عموماً، ومن دلائل ذلك قوله تعالى: قال تعالى: (يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُوَاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوَاْ أَنْفُسَكُمْ إِنّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) [النساء - 29] وكما ورد سابقاً من حديث أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها) قلت : يا رسول الله إن الجيران يستقرضون ... قال : e سبحان الله إنما هذا من مكارم الأخلاق ... ([6]).
3 – أن القرض الحسن هو أحد معاملات العبد المسلم ذات الطابع المميز والذي لا يتصور وجوده في النظم التجارية والاقتصادية المعمول بها في المجتمعات غير الإسلامية، فالقرض الحسن يأتي في إطار تجاري مخصوص وهو التجارة مع الله عز وجل بهدف تحصيل الأجر المضاعف وإن كان غير معلوم حسابياً بالمعايير التجارية الدنيوية، فهو مضاعف أضعاف كثيرة بدون تحديد، ومن ذلك قوله تعالى:(مّن ذَا الّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة - 245]، وقوله عز وجل : (مّثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّئَةُ حَبّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة - 261] ([7]) .
وعلى ذلك يجب أن نؤكد هنا أن عقود المعاملات المالية في التشريع الإسلامي عموماً إنما تقوم على أساس أن هناك مجالين للتجارة في حياة المسلم بشكل عام وهما مجال التجارة مع الناس وقوامها العدل يرافقها ويتناسق معها مجال التجارة مع الله عز وجل وقوامها الإحسان، وأنه من الضروري أن تلتقي الآداب الأخلاقية الإسلامية فيهما لتحقيق كل من الأهداف الاجتماعية(التكافلية) والتجارية أو الاقتصادية معاً، ولذا كانت التوجيهات القرآنية والنبوية بالندب الاختياري في حق المقرض وبالنهي عن اللجوء إلى الاقتراض إلا في حالة الضرورة والحاجة الحقيقية في حق المقترض.
ومن دلائل ذلك نجد قوله تعالى : (إِن تُقْرِضُواْ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) [التغابن - 17]، فليس هناك نص قرآني يأمر أو يجعل تقديم القرض الحسن من الفرائض أو الواجبات الشرعية، كما أن الرسول e كان يكثر في دعائه من الاستعاذة من الفقر ونحوه كما في دعاء " اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم .." و " اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر ..." كما وجه النبي e إلى أن المسألة لا تحل إلا في ثلاث حالات وهي جميعها استثناءات اضطرارية.
من ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه عن قبيصه قال : تحملت حمالة (أي توليت كفالة وضمان بعض الناس) فأتيت رسول الله e أسأله فيها (أي المساعدة) فقال e : أقم بيننا حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك فيها ثم قال eيا قبيصه : إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة : رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك (أي ثم يترك المسألة)، ورجل أصابته جائحة (مصيبة) اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش، ورجل أصابته فاقه حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا (أي العقل) : لقد أصابت فلاناً فاقه فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش فما سواهن من المسألة يا قبيصه سحت يأكلها صاحبها سحتاً([8])، وهناك أخيراً التحذير النبوي بشأن المقترض الذي مات وعليه دين، حيث كان النبي e يسأل عند الجنازة هل عليه دين فإن كان فهل ترك ما يسدد منه دينه، فإن كان وإلا رفض e أن يصلي عليه، أو يتكفل به أحد المسلمين([9]) .
وفي الحديث الأخير ما يكفي للاستدلال التام على أن الاستدانة أو الاقتراض ليست من الأمور المستحبة شرعاً بل أنها تعد أحد أشكال البلاء والمصائب التي يتعوذ منها المسلم في الدعاء ويحطاط بشأنها عن حدوثها مع الحرص على أداءها.
5 – أن القرض الحسن هو البديل التكافلي الاختياري الذي يكاد يكافئ البدائل التكافلية النظامية أو الإلزامية، كالزكاة وكافة أنواع الصدقات والنذور التي تأخذ حكم الواجب الشرعي سواء بنص القرآن أو جاء بشأنها سنن مؤكدة عن النبي e تشترك في إطار أو دائرة واحدة وهي دائرة التكافل الاجتماعي بشكل مباشر وكذلك تتمحور حول هدف رئيسي وهو معاونة المحتاجين من أفراد أو طبقات المجتمع.
كما أن جميع تلك البدائل كانت لمحاربة القرض الربوي، وذلك كله على وجه الاستثناء المؤقت والمرتبط باستمرار حالة الاحتياج حسب ما هو مصنف شرعاً في مصارف الزكاة وتحديداً بالنسبة للفقراء والمساكين وأبناء السبيل والغارمين، حيث تمثل هذه الأصناف حالات الاحتياج الضروري، والتي لا يمكن بطبيعة الحال الوفاء بمتطلباتهم في الإطار التجاري لأسواق السلع أو أسواق المال وفقاً للمعايير التجارية حتى وإن كانت معايير تجارية تلتزم أخلاقيات الفطرة الإنسانية وحدها بدون الارتباط بمعايير التكافل الاجتماعي في إطار التجارة مع الله تعالى وذلك على نحو ما أوضحناه سابقاً .
ومن دلائل اشتراك القرض الحسن في الإطار والهدف مع البدائل الشرعية الإلزامية كالزكاة والصدقات نجد النصوص التالية :
1.     من النصوص القرآنية نجد قوله عز وجل : (وَمَآ آتَيْتُمْ مّن رّباً لّيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النّاسِ فَلاَ يَرْبُوا عِندَ اللّهِ وَمَآ آتَيْتُمْ مّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللّهِ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) [الروم -39]، وقوله تعالى :(يَمْحَقُ اللّهُ الْرّبَا وَيُرْبِي الصّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ كُلّ كَفّارٍ أَثِيمٍ) [البقرة - 276].
2.     ومن النصوص النبوية نجد أيضاً : قوله e " لعن الله آخذ الربا ومؤكلة، وشاهده وكاتبه"  رواه البخاري ومسلم وغيرهما، كما يدل أيضاً على أهمية الانتهاء عن إقراض المحتاجين بالربا، أفراداً كانوا أو جماعات أو حكومات لأقاليم فقيرة من أقاليم الأمة الإسلامية، وهو ما نجده من إصرار النبي e أيضاً على تذكير الأمة وتحذيرها بشأن الربا في حجة الوداع حيث قال e " .. وإن كل ربا موضوع، ولكن لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ... ومن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها .. وأن المسلمين إخوة، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمن أنفسكم، اللهم هل بلغت ؟ "([10]).
وكل ذلك يدل على أن موضوع القرض من حيث الإطار والهدف هو التكافل بين المقتدرين مالياً ممن لديهم استعداداً إيمانياً وأخلاقياً للتجارة مع الله تعالى بجزء من أموالهم، وبين المحتاجين لهذا المال من باب الإحسان إليهم بالقرض الحسن.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق