الأربعاء، 26 فبراير 2014

ابن جنّي والمصطلح اللغوي المصطلحات اللغوية



ابن جنّي والمصطلح اللغوي
عاش ابن جني كل حياته في القرن الرابع الهجري، وقد تميز بعقلية علمية رفيعة، فكان علماً من أعلام علوم العربية كافة مبرزاً في نحوها وصرفها وأصواتها وفقهها، إلى جانب حذقه لعلوم الدين وعلم الكلام. إذ لا بد من أنه قد حذقها وعرف أصولها ومناهجها، مما كان له الأثر الأكبر في تكون شخصيته العلمية. وتدلنا كتبه ومؤلفاته الكثيرة على أننا إزاء شخصية مبدعة، فقد كانت له اجتهاداته اللغوية الكثيرة. وعلى الرغم من تتلمذه على عدد من المبدعين في مجالات الدارسة اللغوية ولا سيّما شيخه أبو علي الفارسي، فإن ابن جنّي استقل بآرائه وتعليلاته وتأويلاته في مجال اللغة. وقد تحدث مترجمو حياته أن مؤلفاته تجلت فيها مظاهر ثلاثة: المظهر اللغوي، والمظهر الفقهي، والمظهر الكلامي، إذ قيل إنه كان ينزع إلى مذهب المعتزلة(22).
كل هذا كان له أثره في اهتمام ابن جني بموضوع (المصطلح اللغوي) إذ لم يكن مجرد ناقل مردّد لما وضعه شيوخه، على الرغم من أنه كان تلميذاً وفياً للبصريين نقل عنهم وردد مصطلحاتهم(23).
ولكن ابن جني المجتهد اللغوي ابتدع مصطلحات خاصة به، وقد صرح هو نفسه بذلك في خصائصه، نحو وضعه مصطلح الاشتقاق الأكبر.
وأما فيما يتعلق بموضوعات هذه المصطلحات فإننا نجد ابن جني قد استنبط موضوعاتها في اللغة محاكاة للقضايا الفقهية أو الكلامية إلى جانب القضايا اللغوية. أو أنه استقى موضوعاتها مما كان يأنس به شيوخه الأدنين كأبي علي الفارسي.
يضاف إلى ذلك وضع ابن جني مصطلحات فرعية لمسائل في اللغة محاكاة لبعض فروع الفقه. وسنشير فيما بعد إلى هذه المصطلحات وأصولها.
ويرى بعض الدارسين المحدثين في الحديث عن عقلية ابن جني ومنهجه في كتبه وبحوثه أنه كان "يلمح الإشارة الخاطفة فيأخذها ويتبناها ويبني عليها حتى يتملكها وتعرف به، فرب عبارة أو إشارة لمحها فعقد عليها باباً أو أكثر، وأخرجها إلى الوجود فكرة واضحة محدودة المعالم، من مثل الاشتقاق الأكبر، والجوار، والتجريد... وغيرها"(24).
ويعجب الباحث أن ابن جني لم يردد ما يسميه الدارسون (المصطلحات الكوفية) على الرغم من إعجابه ببعض علمائهم البارزين من مثل أبي العباس أحمد بن يحيى الملقب بثعلب (ت291هـ).
تطوير ابن جني لمصطلحات شيوخه:
أ- المصطلحات اللغوية:
سبقت الإشارة إلى أنّ ابن جني قد تلقى علوم العربية عن شيوخ عرفوا بالمهارة والإتقان والإبداع سواء من حيث الموضوعات اللغوية التي ورثوها عن شيوخهم، أو من حيث ابتكار الموضوعات أو التفسيرات للظواهر اللغوية المتنوعة. وقد أثر عن ابن جني أنه تلقف علوم البصريين فنشرها وطورها ولا سيما تلك القضايا اللغوية التي ذكرها سيبويه في الكتاب. وكان لأبي علي الفارسي – بعد سيبويه – الفضل في صقل شخصية ابن جني اللغوية، بل كان له الأثر الطيب في تكوين ثقافته إذ لم يقف عند حدود النقل عن شيوخه فكان يضع المصطلحات للمسائل اللغوية التي استقاها منهم، ويزيد عليهم بالتفسير والتقسيم والتطوير، وكان أحياناً يختار مصطلحه من أقوال شيوخه، فيختصر كلاماً كثيراً لهم ليضع مصطلحاً واضحاً وموجزاً.
المطرد والشاذ:
والواقع أن ابن جني لم يبتدع تسمية المطرد والشاذ، ولكنه اختصر كلاماً كثيراً لشيخه أبي علي الفارسي وشيخ شيخه ابن السراح. فها هو ذا ابن السراج ينثر كلامه حول المطرد والشاذ في صفحات كثيرة(25).
ثم يأخذ تلميذه أبو علي الفارسي بكلام شيخه فيضعه في باب في كتاب (المسائل العسكرية) أطلق عليه (معرفة ما كان شاذاً في كلامهم) (26). وجعل الشيخان الشاذ ثلاثة أنواع:
أ‌-        شاذ عن الاستعمال مطرد في القياس.
ب- مطرد في الاستعمال شاذ عن القياس.
ج- وشاذ عنهما.
ثم يأتي ابن جني فيلحظ أن القسمة تحتاج نوعاً رابعاً، فإن كل نوع له ما يقابله إلا الشاذ في الاستعمال والقياس، فإن ما يقابله لا بد من أن يكون المطرد في الاستعمال والقياس، ولذلك جعل المطرد والشاذ ليس عنواناً للباب فحسب، وإنما جعله مصطلحاً لمسائل في اللغة ارتبط فيها الاطراد والشذوذ في الاستعمال والقياس.
بدأ ابن جني الباب (باب القول على المطرد والشاذ) بتعريف المصطلحين وبيان تطور المعنى اللغوي إلى المعنى الاصطلاحي، فعرف مصطلح (المطرد) بقوله: "أصل مواضع (ط ر د) في كلامهم التتابع والاستمرار، فذكر استعمالات (طرد) واستشهد لمعانيها بما ورد في كلام العرب. ثم انتقل بعد ذلك إلى مادة (ش ذ ذ)، فقال: "وأما مواضع (ش ذ ذ) في كلامهم فهو التفرق والتفرد. ثم خلص إلى بيان معنى المصطلحين: "هذا أصل هذين الأصلين في اللغة، ثم قيل ذلك في الكلام والأصوات على سمة وطريقة في غيرهما، فجعل أهل علم العرب ما استمر من الكلام في الإعراب وغيره من مواضع الصناعة مطرداً، وجعلوا ما فارق عليه بقية بابه وانفرد عن ذلك إلى غيره شاذاً، حملاً لهذين الموضعين على أحكام غيرها"(27).
ثم أخذ ابن جني يفصل للأنواع الأربعة من المطرد والشاذ. ولعلنا هنا نسجل لابن جني ليس لاستخدامه المصطلحين فحسب، ولكن لأن عقليته المنظمة قد فرقت بين كل نوع بشكل واضح مقنن، فإنه يذكر كل نوع فيوضحه، ثم يضرب له الأمثلة، ويضع لها قواعد يسير عليها مَنْ جاؤوا بعده في تبويب القضايا اللغوية وتوضيحها واستنباط أحكامها.
وهذا الذي طوره ابن جني تطويراً بديعاً جعل السيوطي ينقل الباب كله تقريباً عن ابن جني فجعل (المطرد والشاذ) باباً خاصاً من أبواب كتاب المزهر في علوم اللغة(28).
ب- الاشتقاق الأكبر:
عرف اللغويون العرب القدامى الاشتقاق. ولعل أول من ألف في الاشتقاق (الأصمعي) في كتيب سماه (الاشتقاق)، وأراد العلماء الأوائل من الاشتقاق ما عرف لاحقاً بالاشتقاق الصغير/ الأصغر أو العام وهو الاشتقاق التصريفي، وقد عني به البصريون الذين كانوا يرون أن الكلام يشتق بعضه من بعض، وأن المصدر أصل المشتقات. وهذا موقف البصريين، وكان ابن جني تلميذهم الوفي.
ولقد طور اللغويون درس الاشتقاق فاستنبطوا له أنواعاً لا نوعاً واحداً وما أن أهل القرن الرابع الهجري حتى عرفنا للاشتقاق ثلاثة أنواع هي:
1-        الاشتقاق الصغير/ العام.
2-        والاشتقاق الكبير، وهو الإبدال.
3-    والاشتقاق الأكبر، وهو الاشتقاق التقليبي، وصاحب تسميته ابن جني على ما صرح في باب الاشتقاق الأكبر. على أن ابن جني اعترف بالفضل لشيخه أبي علي الفارسي الذي كان يأنس به(29).
والاشتقاق الأكبر هو أن تأخذ أصلاً من الأصول ثم تجري قلباً لمواطن الحروف فيتكون لنا من كل أصل عددٌ من الصور هي: الصور الست للحروف الثلاثة المختلفة من حيث النظم، والأربع والعشرون للأربعة، والمائة والعشرون للخمسة(30).
ولكن بعض اللغويين، ومنهم السكاكي سمى هذا اللون من الاشتقاق بالاشتقاق الكبيـر.
ويظهر أن الذي دعا ابن جني إلى تسميته بالاشتقاق الأكبر وجعله من باب الاشتقاق أن الصور المختلفة للأصل الواحد/ للحروف ينتظمها معنى واحد، وقد طبق ذلك على عدد من ألفاظ اللغة نحو اشتقاق المواد التالية: ك ل م، ق و ل، ل م س، و ج د، ج ب ر.
ولكن ابن جني اعترف بعدم اطراد الاشتقاق الأكبر في كل ألفاظ اللغة. ويرى أحد الدارسين المحدثين أن الذي فتح الباب لابن جني في الاشتقاق الأكبر كان عمل الخليل بن أحمد في معجم العين حين جعل المقلوبات جزءاً من منهج العين(31).
وأما الاشتقاق الأكبر عند اللغويين فهو ما يسمى بالإبدال اللغوي، وشرطه أن تتفق كلمتان في أغلب حروفهما على أن يكون المعنى واحداً أو متوافقاً لكلا الكلمتين، يقول عبد الله أمين: "وهذا الضرب من الاشتقاق يمكن أن ينتفع به في اشتقاق اسمين لمسميين متشابهين في الشكل والعمل، أو في أحدهما إن كان بين الاسمين والمسميين ملاءمة. مثال ذلك: الغُمْنة والغُمْرَة: تمر ولبن تطلي به المرأة وجهها ويديها، حتى تَرِقَّ بشرتها"(32).
ويذهب بعض الدارسين إلى أن أحمد بن فارس (ت 395هـ) بنى معجمه (مقاييس اللغة) على فكرة هذا الاشتقاق.
غير أن بعض الدارسين عكس التسمية فجعل الاشتقاق الكبير للمقلوبات والاشتقاق الأكبر للإبدال اللغوي(33).
اتفاق اللفظين واختلاف المعنيين:
وهذا عنوان باب في الخصائص جعله ابن جني - كما يبدو من تكملة عنوان الباب - "في الحروف والحركات والسكنات". إذ استعار عنوان الباب مما ذكره اللغويون قبله في تقسيم ألفاظ اللغة، فقد ورد هذا التقسيم في كتاب سيبويه كالآتي:
1-        اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين نحو: جلس وذهب.
2-        اختلاف اللفظين والمعنى واحد، نحو ذهب وانطلق. وهذا الذي استخدم له اللغويون مصطلح (الترادف).
واتفاق اللفظين والمعنى مختلف، نحو: وجدتُ عليه من الموجدة، ووجدت إذا أردت وجدان الضالة. وهذا هو المسمى بالمشترك اللفظي(34).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق