الجمعة، 21 فبراير 2014

أركان القرض وشروطه




أركان القرض و شروط  القرض
 أركان القرض ثلاثة هي :
1.     الصيغة .
2.     العاقدان .
3.     المحل .
الركن الأول (الصيغة) : ( الإيجاب والقبول )
بما أن القرض عقد يتم بين الطرفين ، فإن وجوده يتوقف على صيغة تُبين ماهية رغبة العاقدين في إنشائه ، وتعطي بوضوح صورة متكاملة عن الاتفاق الذي يحصل بينهما الخاص بتشكيل القرض. وذلك لأن النية من المستبعد كشفها لأنها أمر باطن ولا يمكن الاطلاع عليه ، فوضع مكانه ما يدلُ عليه ويكشف عنه وهو الإيجاب والقبول المتصلين المتوافقين .
وصيغة الإيجاب والقبول هي : كأقرضْتُكَ واقترضت ولا يشترط فيها لفظ القرض ، بل يصح بكل لفظ يؤدي معناه كأسلفتك وملكتلك ببدله وخذه بمثله ، وقول المُقترض : استلفت وتملكت ببدله ونحو ذلك ، ويصح أيضاً بلفظ الماضي والأمر كقوله : أقرضني وأسلفني ، وأقترض مني واستلف ونحوها([1]).
ولا خلاف بين الفقهاء في صحة الإيجاب بلفظ القرض والسلف وبكل ما يؤدي معناهما ، كأقرضْتكُ وأعطيتُك ، أو في حالة وجود قرنةٌ دالة على إرادة القرض ، كأن سأله قرضاً فأعطاه ، وكذلك صحة القبول بكل لفظٍ يدل على الرضا بما أوجبه الأول ، مثل : استقرضْت أو قبلتُ .
قال السيد سابق : عقد القرض عقد تمليك ، لا يتحقق إلا بالإيجاب والقبول كعقد البيع والهبة . وينعقد بلفظ القرض والسلف ، وبكل لفظ يؤدي إلى معناه ([2]). وقال الشيخ الأنصاري : وظاهرٌ أن الالتماس من المقرض ، كاقْتَرضْ مني ، يقوم مقام الإيجاب ، ومن المقترض ، كأقرضني ، يقوم مقام القبول ، كما في البيع([3]).
يقول الكاساني في بيان ركن القرض : أما ركنه فهو الإيجاب والقبول ، والإيجاب قول المقرض : أقرضتك هذا الشيء ، أو خذ هذا الشيء قرضاً ونحو ذلك ، والقبول هو أن يقول المستقرض : استقرضت أو رضيت أو مايجري هذا المجرى ، وهذا قول محمد رحمه الله وهو إحدى الروايتين عن أبي يوسف([4]).
وروى عن أبي يوسف أخرى أن الركن فيه الإيجاب ، أما القبول فليس بركن حتى لو حلف ، لا يقرض فلاناً ،  فأقرضه ولم يقبل لم يحنث عند محمد ،  وهو إحدى الروايتين عند أبي يوسف ، وفي رواية أخرى يحنث ، وجه هذه الرواية لدى الكاساني أن الإقراض إعارة لما نذكر والقبول ليس بركن في الإعارة . ووجه قول محمد : أن الواجب في ذمة المستقرِضِ مثلُ المستَقْرَض ، فلهذا اختص جوازه بما لهُ مثل ، فأشبه البيع ، فكان القبول ركناً فيه كما في البيع([5]) ، وبقول الحنفية إن الإقراض إعارة ، فإن دَل ذلك على شيء فقد دَل بالنص الصريح على صحة القرض بلفظ الإعارة ، نظراً لأن إعارة المثليات قرضٌ حقيقة
ويقول الشيخ الشربيني الشافعي صيغته أي إيجابه : ) أقرضتك أو أسلفتك( هذا ) أو خذه بمثله أو ملكتكته على أن ترد بدله( أو خذه واصرفه في حوائجك ورد بدله كما في أصل الروضة ، وأسقطه المصنف للاستغناء عن )وأصرفه في حوائجك( ، ولو اقتصر على ((ملكتك)) فهو في هبة في الظاهر . وأما قبوله أي الإقراض )في الأصح ( كسائر المعاوضات ، وشرط القبول الموافقة في المعنى كالبيع ، فلو قال : أقرضتك ألفاً فقبل خمسمائة أو بالعكس لم يصح وإن فرق بعضهم بأن المقرض متبرع فلا يضر قبول بعض المسمى أوالزائد عليه([6]).
ويقول الإمام النووي في المجموع : لا ينعقد إلا بالإيجاب والقبول ، لأنه تمليك آدمي فلم يصح من غير إيجاب وقبول كالبيع والهبة ؛ ويصح بلفظ القرض والسلف لأن الشرع ورد بهما ، ويصح بما يؤدي معناه ، وهو أن يقول ملكتك هذا على أن ترد عليَ بدله ([7]).
وقال الشافعية أيضاً أركان القرض كأركان البيع فلا بد فيه أن يكون الشيء المقترض معلوم القدر وكذلك لابد فيه الإيجاب والقبول كالبيع ، والإيجاب تارة يكون صريحاً ، وتارة يكون كناية ، فالصريح كأن يقول : أقرضتك هذا الشيء أو سلفتك ، والكناية كأن يقول : خذ هذا الشيء بمثله ، أو اصرفه في حوائجك ورد بدله ([8]).
وعلى الرغم من قول الشافعية باشتراط الإيجاب والقبول كأساس لصحة القَرضْ  ، وحاله كحال سائر المعاوضات ، إلا أنهم قد استثنوا  منه ما سَّموه في اصطلاح القرض ((القرض الحكمي )) ، ولم يتشرطوا فيه الصيغة أصلاً ([9])، نعم القرض الحكمي كالإنفاق على اللقيط المحتاج وإطعام وكسوة العاري لا يفتقر إلى الإيجاب والقبول([10]).
وقد فرَع الإمام أبو إسحاق الشيرازي من الشافعية على اشتراط الإيجاب والقبول لأجل انعقاد القرض ، ما لو قال المُقرضُ للمستقرض : (( أقرضْتُكَ ألفاً ، وقَبِلَ  ، وتفرقا ، ثُم دفع إليه الألف ، فإن لم يطل الفصل جاز ، لأن الظاهر أنه قصد الإيجاب. وإن طال الفَصْلُ لم يجز ، حتى يُعيد لفظ القرض ، لأنه لا يمكن البناء على العقد مع طول الفَصْلِ ))([11]). ثم أكمل قوله : (( وإن كتب إليه وهو غائبٌ : أقرضْتُكَ كذا ، ففيه وجهان أحدهما ؛ ينعقد لأن الحاجة مع الغيبة داعيةُ إلى الكتابة ، والثاني ؛ لا ينعقد لأنه قادرٌ على النطق ، فلا ينعقد عقده بالكتابة ، كما لو كتب وهو حاضر ، وقولُ القائل الأول إن الحاجة داعيةٌ إلى الكتابة لا يصح ، لأنه يمكنه أن يوكل مَنْ يعقد العقد بالقول))([12]).
وتحرير الكلام في مسألة ألفاظ القبول والإيجاب ، نجده لدى العلامة ابن تيمية  حيث قال : ( والتحقيق أن المتعاقدين إنْ عرفا المقصود انعقدت ، فأيُّ لفظ من الألفاظ عُرف به المتعاقدان مقصودهُما أنعقد به العقد ، وهذا عام في جميع العقود ، فإن الشارع لم يحدَ ألفاظ العقود حداً ، بل ذكرها مُطلقة ، فكما تنعقد العقود بما يدلُ عليها من الألفاظ الفارسية والرومية وغيرهما من الألسن العجمية ، فهي تنعقد بما يدلُ عليها من الألفاظ العربية ، ولهذا وقع الطلاق والعتاق بكل لفظٍ يدلُ عليه ، وكذلك البيع وغيرهُ)([13]).
الركن الثاني  العاقدان : ( المُقرض والمقترض) ويشترط فيهما :
(‌أ)      أهلية التبرع في المُقرض فيما يقرضه :
لا وجود للخلاف بين الفقهاء في أنه يُشترط في المُقرض أن يكون من أهل التبرع ، أي حراً بالغاً عاقلاً رشيداً ، وعلى ذلك فلا يَمْلكه مَنْ لا يملك التبرع كالصبي والمكاتب والعبد المأذون ونحوهم ([1]).
عند الحنابلة قال الإمام البهوتي : (( يشترط  أن يكون المُقرض ممن يصح تبرعه ، لأنه عقد إرفاق . فلم يصِحَّ إلا ممن يصِحُّ تبرعه ، كالصدقة ))([2]). وكذلك ذكر المرداوي بخصوص المُقرض فقال : (( يُشترط أن يكون المُقرض ممن يصح تبرعه))([3]) .
وذكر الكاساني  وهو قول الحنفية تأكيده لهذا المعنى بقوله : (( إن القرض للمال تبرع ، ألا ترى إنه لا يقابله عوض في الحال ،  وكذا لا يملكه من لا يملك التبرع ))([4])، فإذن مضمونه هو عقد تبرع بالحال .
ولم يعتبر الشافعية القرض أنه من عقود الإرفاق والتبرع ، وعللوا ذلك بأن القرض فيه شائبة التبرع ، فقد قالوا : (( إن القرض فيه شائبة التبرع ، ولو كان معاوضة محضةً لجاز للولي (غير القاضي) قَرْضُ مال موليه لغير ضرورة ، واللازم باطل ))([5]).

(‌ب)  الرشد  و الاختيار :
معنى الرشد هو: (( الاتصاف بالبلوغ والصلاح في الدين والمال ، لأن القرض عقد معاوضة مالية ، والرشد في العاقد شرط في صحة عقود المعاوضة ، فلا يصح الإقراض ولا الاستقراض من صبي ولا مجنون ولا محجور عليه لسفه لأنهم غير راشدين في التصرف بأموالهم )) . أما  معنى الاختيار فهو: (( تصرف الشخص بالمال بإرادته دون إكراه ؛ لأن الإكراه يفقد الرضا )) .
وقد نص الشافعية بهذين المعنيين في أن أهلية المُقرِض للتبرع تستلزمُ رشده واختياره ، وعلى ذلك فلا يصِح إقراضُ مُكرَهٍ . قالوا : ومحلهُ إذا كان الإكراهُ بغير حق ، أما إذا أُكرهَ بحق ـ بأن وَجبَ عليه الإقراضُ لنحو اضطرارٍ ـ فإن إقراضه مع الإكراه يكون صحيحاً([6]).
(‌ج)   ما يُشترط في المُقترض :
ذكر الشافعية في مدوناتهم أنه يشترط في المُقترض أن يكون أهلاً للمعاملة ، بأن يكون بالغاً وعاقلاً غير محجور عليه([7])، ولم يتشرطوا أهلية التبرع فيه .
وقد نص الحنابلة على أن شرط المقترض تَمتُعُه بالذمة ،  فمن شأنه ؛ أي : القرض ، أن يصادف ذمة . قال ابن عقيل : (الدين لا يثبتُ إلا في الذمم ، ثم فَّرعوا على ذلك فقالوا : فلا يصح قرض جهة ، كمسجد ونحوه ) كمدرسة ورباط(([8]).  فلا يصح قرض هذه الجهات برأيهم لعدم وجود ذمم لها .
أما بالنسبة للحنفية فلم ينصوا على شروط خاصة للمُقترض ، والذي يُستفاد من فروعهم الفقهية اشتراطهم أهلية التصرفات القولية فيه ، بأن يكون حراً بالغاً عاقلاً وعلى ذلك قالوا : إذا استقْرضَ صبيٌ محجور عليه شيئاً فاستهلكهُ الصبي لا يضمن (وقوله استقرض صبياً محجورا فاستهلكه) قيد بالمحجور لأنه لو كان مأذوناً فهو كالبالغ وبالاستهلاك فإنه يضمن ، ولو تَلِفَ الشيء بنفسه لا يضمن اتفاقاً ، ولو بقيت عينُه فللمُقرِض أن يسترِدهُ([9]) ، فالحُكم هنا مبنيٌ على عدم صحة اقتراض المحجور عندهم.

الركن الثالث المَحَل : ( المالُ المُقْرَض)  
ذكر الفقهاء ثلاثة شروط ، ومعها بيان اختلاف الفقهاء في اعتبارها أو في مدى اشتراطها وتلك الشروط هي :
الشرط الأول : ( أن يكون من المثليات ) :
المثليات : هي الأموال التي لا تتفاوت آحادها تفاوتاً تختلفُ به قيمتها ، كالنقود وسائر المكيلات والموزونات والمذروعات والعدديات المتقاربة ([10]).
قال الحنفية : يصِح القرض في المثليات أو في المثلى ، وهو كل ما يُضمن بالمثل عند الاستهلاك ، أما في القيميات كالحيوان والحطب والعقار وكل متفاوت فلا يصِحُّ إقراضها لتعذر رد المِثل ([11]) .
 وذكر ابن عابدين  معنى )لتعذَرَ ردُ المِثل( : علة لقوله لا في غيره ، أي لا يصِحُّ القرض في غير المُثلى ، لأن القرض إعارةٌ ابتداءً حتى صحَ بلفظها ، معاوضةٌ انتهاءً ؛ لأنه لا يُمكن الانتفاع به إلا بالاستهلاك عينه ، فيستلزم إيجاب المثل في الذمة وهذا لا يتأتى في غير المُثلى . وقال في البحر : لا يجوز في غير المثلى ([12]).
وقال الكاساني : (( أن يكون القرض مما له مِثْل كالمكيلات والموزونات ، فلا يجوز قرض ما لا مثل له من المذروعات والمعدودات المتقاربة ، لأنه لا سبيل إلى إيجاب رد العين ولا إلى إيجاب رد القيمة لأنه يؤدي إلى المنازعة لاختلاف القيمة باختلاف تقويم المقومين فتعين أن يكون الواجب فيه رد المثل فيختص جوازه بما له مثل))([13]) .
وقال الشافعية : يجوز القرض في المُثليات ، فذهبوا بذلك المنحى إلى ما ذهب إليه الحنفية من القَرْض بالمُثليات ، لكنهم وسعوا في نطاق دائرة القرض ، فقال الشيرازي : (يجوز قرض كل مال يُملَك بالبيع ويُضبط بالوصف ، لأنه عقد تمليك يثبت العوض فيه بالذمة فجاز فيما يملك ويضبط بالوصف كالسلم) ([14]).
ويدخل أيضاً في دائرة القرض لدى الشافعية : (العقارات والحيوانات وغيرها من القيميات التي يُمكن ضبطها بالوصف) .
أما ما لا يُسْلَمُ فيه ، وهو ما لا يُضبطُ بالوصف كالجواهر([15]) والخبز وغيرها ففيه وجهان : )أحدهما( لا يجوز إقراضه ؛لأن القرض يقتضي رد المثل وما لا يُضبط بالوصف لا مثل له ، )والثاني( يجوز؛ لأن ما لا مثل له يضمنه المُستقرض بالقيمة ، والجواهر كغيرها في القيمة ([16]).
وقد رجح الشافعية الوجه الأول حيث قال النووي في شرح المهذب : (إن قلنا يجب رد القيمة جاز قرض هذه الأشياء ، وإن قلنا يجب رد المثل فيها لم يجز قرضها ولكن توجيهها يأتي في رد المُثليات )([17]).
وقد استثنى الشافعية من عدم جواز قرضهِ ما لا يجوزُ السَلم فيه جواز قرضِ الخبز وزناً لعموم الحاجة إليه ، وبعضهم يقول : يجوز إقراضه عداً ووزناً([18]).
        وقد قال النووي : (قطع صاحب التتمة ( أبو سعد المتولي) والمستظهري بجواز قرضه وزناً ، واجتمع صاحبا الشامل والتتمة بإجماع أهل الأمصار على فعله في الأعصار بلا إنكار)([19]) .
كما استثنى الشافعية من جواز إقراض كل ما يجوز السَلم فيه قَرْض الجارية لمن تحلُ له ، قال الشيخ الشربيني : (فلا يجوزُ إقراضها له ولو غير مشتهاة ( في الأظهر ) لأنه قد يطؤها ويردها ؛ لأنه عقد جائز من الطرفين يثبت الرد والاسترداد ، فيصير في معنى إعارة الجواري للوطء ، وهو ممتنع ([20])، أي محظور شرعاً .
بخصوص إقراض الجارية ـ وبنفس الصدد ـ قال الشيرازي : ((ويُخالفُ البيع والهبة ، فإنَ المُلكَ فيهما تام ، لأنه لو أراد كلُ واحد منهما أن ينفرد بالفسخ ، لم يملك، والمُلك في القرض غيرُ تامُ ، لأنه يجوز لكل واحد منهما أن ينفرد بالفسخ ، فلو جوَزنا فيمن يحلُ له وطؤها أدَى إلى الوطء في ملكٍ غير تام ، وذلك لا يجوز))([21]) ، أما مَنْ لا يحل له وطؤها لمحرميَةٍ  أو وثنيَةٍ أو نحوه ، فيجوز إقراضها له ([22]). 
أما المالكية ، فكان قولهم قريباً من قول الشافعية ، فنصوا على : ((أنَّ كلَ ما يقبل جِنسهُ السَلم يصح قرضه كالمكيل والمعدود والموزون ، فإن جنس كل واحد منها يقبل السلَم ، فالقمح مثلاً يقبل السلم ، وكذلك اللحم وإن كان قد يمتنع فيه السَلم أحياناً ، ولكن لا يمتنع فيه القرض ، وكذلك يصح القرضُ في الحيوان وعروض التجارة لأنه يصح السلم في جِنسهما))([23]).
وكذلك استثنوا مما يجوز السلم فيه ، الجواري من جواز القرض مثل ما قال الشافعية فقيل لديهم  : ((يجوز السلف ( القرضُ) في كل ما يجوز أن يثبت بالذمة سلماً إلا الجواري ، لأنه يؤدي إلى إعارة الفروج ، وقيل : يجوز إن أسلفت جارية للذي مُحرم مِنها ، أو لمن يتلذذ بالنساء ، أو كانت الجارية لا تحمل الوطء))([24]).
وفي استثناء منع قرض الجارية قال الزرقاني : ((انتفى المنع ُإنْ حَرُمَتْ عليه أو تعذَرَ وطؤه لها ، لصغره أو كونه شيخاً فانياً أو كونها في سن مَنْ لا توطأ مدة القرض في الثلاثة ، أو كان المقترضُ امرأةً فيجوزُ قرضها))([25]) .
وبالنسبة للحنابلة ، فقد قالوا : يصِح قرض المكيل والموزون بغير خلاف . قال أبو بكر : أجمع كُل مَنْ نحفظ عنه من أهل العلم على أن استقراض الدنانير والدراهم والحنطة والشعير والتمر والزبيب ، وكل ماله مثل من الأطعمة المكيل منها والموزون جائزة ([26])، وتطابق قولهم بذلك مع قول الحنفية.
وقال البهوتي : ((ويصِحُّ القرض (في كُل عين يجوزُ بيعها ) ، من مكيل وموزون ومذروع ومعدود وغيره (إلا الرقيق فقط) فلا يصِح قرضه ، ذكراً كان أو أنثى ، لأنه لم ينقل ، ولا هو من المرافق ، ولأنه يُفضي إلى أن يَقترض جاريةً يطؤها ثم يَرُدُّها))([27]).
وبني آدم يثبت بالذمة إلا أنه مُستثنى من الإقراض ولا يصُح إقراضه ، قال المرداوي: أما قرض بني آدم لا يصح . وهو المذهب([28])،  أي قول المذهب الحنبلي ، وأي شي غير بني آدم مما يثُبت بالذمة سَلَماً جاز قرضُه ، يقول ابن المنذر: يجوز قرض كل ما يثبت بالذمة سَلَماً([29])،وبذلك قال الشافعية والمالكية في هذا الوجه.
وأما ما لا يثبُت بالذمة سلماً كالجواهر وما شابهها ، قال ابن قُدامة في (المُغني) : ( لم يجز قرض الجواهر وما لا يثبت في الذمة سلماً لتعذر رد المثل ، وإن قُلنا الواجب رد القيمة . جاز قرضه لإمكان رد القيمة ، ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين )([30])
ونستنتج من أقوال الفقهاء لدى المذاهب الأربعة بخصوص الشرط الأول ما يلي :
1.     أن يكون المال المُقرض مثلياً وأن يَرُدَّ المُقترض مثله وهذا باتفاق الفقهاء وإجماعهم .
2.     ذهب جمهور العلماء من الحنابلة والشافعية والمالكية ، بالإضافة إلى صحة قَرضِ المثليات إلى جواز إقراض القيميات كالحيوان وغيره ، وقد اختلفوا مع الحنفية  الذين لا يصح القرضُ لديهم إلا بالمُثليات ، وقد استدل جمهور العلماء لما ذهبوا إليه بنظرتين وهما :
·        ما صحَ عن النبي rمن أنه استَقْرضَ بَكْراً ، والذي ورد في الحديث الشريف المروي عن  أبي رافع([31]) ـ وقِيْسَ غيره عليه ـ ووجهة الاستدلال : أن البَكْر ليس مكيلاً أو موزوناً ، وبالرغم من  ذلك ،  لكن حصلَ فِعْلُ الاقتراض من الرسولr
·        أن ما ثبت سلماً يُملك بالبيع ويُضبط بالوصف ، فأصبح كالمُثلى يعني )مِثله في الأسواق ( ، فجاز قَرضُهُ .
وفي ما يصح فيه القرض لدى فقهاء ومذاهب أخرى ، قال السيد سابق : ((يجوز قرض الثياب والحيوان ، ويجوز قرضُ ما كان مكيلاً أو موزوناً ، أو ما كان من عروض التجارة ، كما يجوز قرض الخبز والخمير([32]).
قال ابن حزم في المحلى : (( والقرضُ جائز في الجواري والعبيد والدواب والدور والأرضين وغير ذلك لعموم قوله تعالى : ﴿ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾[ البقرة : آية 282] فعمم تعالى ولم يخص ، فلا يجوز التخصيصُ في ذلك بالرأي الفاسد بغير قرآن ولا سنة ، وقولنا في هذا هو قول المزني وأبي سليمان ومحمد بن جرير وأصحابنا))([33]).
فذهب ابن حزم وبعض الفقهاء بهذا القول إلى أنه يجوز إقراضُ كل شيءٍ ، سواءٌ أكان مما يضبط بالصفة أو لم يكن ، وسواءٌ أكان حيواناً أو جارية تحلُ للمُقترض أو لم يكن تحلُ .
الشرط الثاني : ( أن يكون عينا ً) :
عيناً أي معناه عدم صحة إقراضِ المنافع ، وفي ذلك قال الحنابلة وهو ظاهر كلام كثير من أصحاب المذهب حيث قالوا : ما صح السَلم فيه صح قرضهُ([34])، والمنافع لا يصُح بها السَلم ،
وان عدم صحة إقراض المنافع جاء من مخالفته للعرف وما تعود عليه الناس من التعامل فأُعتُبر ذلك مستندٌ للمنع حيث عبر الشيخ البهوتي عنه بقوله : (( ولا يصِحُ قرض المنافع لأنه غير معهود))([35]) ، أي بغير عُرف الناس وعادتهم.
غير أنَ شيخ الإسلام الإمام تقي الدين بن تيمية من شيوخ الحنابلة خالف هذا الرأي من الحنابلة ، فقال : (( يجوز قرضُ المنافع ، مثل أن يحصُد معه يوماً ويحصُد معه الآخر يوماً ، أو يسكنه الآخر داراً ليُسكِنَه الآخر بدلها . لكنَ الغالب على المنافع أنها ليست من ذوات الأمثال ، حتى يجب على المشهور في الأخرى القيمة ، ويتوجَه في المتقوم أنه يجوز ردُ المثل بتراضيهما))(([36]
أما بالنسبة للحنفية  فكان أساس عدم صحة إقراض المنافع لديهم ومنعها هو : أن القرض إنما يَرِدُ على دفع مال مثلي لآخر ليُردَّ مثله ([37])، وحسب مذهبهم فإن المنافع لا تُعد أموالاً لديهم  ، وعلى هذا فلا يجوزُ إقراض المنافع لدى الحنفية .
فالمنافعُ غيرُ قابلة للإحراز والادخار ، إذْ هي أعراضٌ تحدثُ شيئاً فشيئاً ، وآناً فآناً ، وتنتهي بانتهاء وقتها ، وما يحدُثُ منها غير الذي ينتهي ، ومن أجل ذلك لم يصحَ جَعْلُ المنافع محلاً لعقد القرض ([38]).
أما الشافعية والمالكية فلم يشترطوا في باب القرض أن يكون محلَ القرض عيناً ، ولكنهم اشترطوا في الشيء المُقرض أن يكون مما يصح فيه السَلم فوضعوا معياراً لما يصِحُّ إقراضه ، وفي باب السلم نصوا على جواز السَلم في المنافع كما هو الشأن في الأعيان ([39]) ، فنستنتج من ذلك الكلام صحةَ إقراض المنافع فهي ضمن ما يجوز السَلم فيه المنضبط بالوصف بمقتضى ما موجود في قواعد مذهبهم.
ولكنَّ هناك قولاً لأحد الشافعية منفرداً يُبعد المنافع من صحة الإقراض حيث قال النووي نقلاً عن القاضي حسين في الروضة : (( ولا يجوزُ إقراض المنافع ، لأنه لا يجوزُ السلَمُ فيها))([40]) ، يؤخذ من تعليله أن محله في منافع العين المعينة ، أما التي في الذمة فيجوز إقراضها لجواز السَلم فيها ([41]). وهذا تعليل الشافعية لذلك القول .

الشرط الثالث ( أن يكون معلوماً) :
اشتراط معلومية أو قدر المال المُقرض ضرورية لأجل صحة العقد، فعلى هذا القول(يشترط في محل القرض أن يكون معلوم القدر عند القرض ، كيلاً أو وزناً أو عدداً أو ذرعاً ليُتَمكن من رد بدله)([42]) ، وهذا ما سنوضحه من خلال أقوال الفقهاء في خصوص معلومية المال المُقرض.
قال ابن حزم في المحلى : (( كل ما يُمكن وزنه أو كيله أو عدده أو ذرعُه لم يَجُز أن يُقرض جزافاً ، لأنه لا يدري مقدار ما يَلزَمُه أن يَردُه ، فيكون أكلُ مالٍ بالباطل))([43]).
وقال الكاساني : (( أن يكون القرض مما له مِثلٌ ، كالمكيلات والموزونات والعدديات المتقاربة))([44]). وقال الحنفية أيضاً : (( يجب أن يكون القرض معلوم القدر عند قبضه ؛ لئلا يتعذر الوفاء به ، أو يكون سبباً للخلاف أو سوء الظن . وإذا كان المتعاقدان ممن يتسامحان ، أو كانت مادة القرض مما يُتساهل به الناس ، فيكفي تقديرها في الذهن ولو تخميناً))([45])
        وهذا رأي الحنفية في الشيء المُقرَض ، وهو أن يكون مما يُقدّر أو يكون معروف الصفة ، ولا يصِحُ لديهم عقد القرض بدون اشتراط المثلية وهي معلومة ما تم إقراضُه حتى يمكن رد بدله بدون أي خلاف .
وعند الشافعية ، قال الشيرازي : (( لا يجوز إلا في مالٍ معلوم القدر ، فإن أقرَضَهُ دراهم لا يعرف وزنها أو طعاماً لا يعرِف كيلهُ ، لم يَجُز لأن القرضُ يقتضي ردُ المِثل ، فإذا لم يعلم القدر لم يُمكن القضاء))([46]) ، وقيل : ولا يصح القرض إلا في مالٍ معلوم ، لأنه إذا لم يعلم ( المُقترض ) قدر ذلك لم يُمكنه القضاء([47]). وقد جاء في أسنى المطالب يحدد المال المعلوم بالقدر والصفة كشرط لصحة القرض : (( يُشترط لصحة الإقراض العِلمُ بالقَدْر والصفة ليتأتى أداؤه ، فلو أقرضَهُ كفاً من دراهم لم يصحَ ، ولو أقرضَهُ على أن يُستبان مقداره ، ويردَ مثله صح))([48]) .
وقد استثنى الشافعية من اشتراط كون محلّ القرض معلومَ القدر ما سَمَّوه )بالقرض الحكمي( والمراد به : الإنفاق على اللقيط المحتاج وإطعام الجائع وكسوة العاري ، وقد مررنا على ذكره سابقاً في تعريف القرض لدى الشافعية ، فلم يُوجبوا معرفة القدر فيه لأجل صحة القرض ([49]).
وقال المالكية : لا يصِحُّ القرض إلا بآلة الكيل المعروفة بين الناس ، وآلةِ الوزن المعروفة بين الناس أيضاً ـ كالكيلة والربع والقدح ـ والرطل والأوقية المعلومة([50]) ، وهنا المالكية اعتبروا تعيين معلومية للكيل أو الوزن بآلات معروفة ومعلومة لدى الناس ، حتى يتم تقدير وتقويم المال المُقرض .
وقد ربط الحنابلة اشتراط صحة عقد القرض ، بمعرفة قدر ووصف الشيء المُقْرَض ، قال البهُوتي : (( ويُشترط معرفة قدر القرض ووصفه))([51])، ونفس الكلام ذكَره العلامة المرداوي  حين قال : ((  يُشترط في صحة القرض معرفةُ قدْرهُ بقدرٍ معروف ووصفُه ))([52]).
وعلة هذا الاشتراط  لديهم ، قد بَينها ابن قدامة المقدسي بقوله : (( وإذا اقترضَ دراهم أو دنانير غيرَ معروفة الوزن لم يجز ، لأنَ القرضُ فيها يوجب ردَ المثل ، فإذا لم يُعرَف المثلُ لم يُمكن القضاء ، وكذلك لو اقترضَ مكيلاً أو موزوناً جزافاً لم يَجْزُ ذلك . ولو قدَرَهُ بمكيالٍ بعينهِ أو صنجةٍ بعنيها غيرُ معروفين عند العامة لم يجز ؛ لأنه لا يأمَنُ تَلفَ ذلك ،  فيتعذَرُ ردُ المثل ،  فأشبه السَلمَ في مِثْل ذلك))([53]).
ونُلاحظ مما سبق ذكره عن اشتراط معلومية محل القرض لدى الفقهاء أنها تتضمن شقين :-
·        الشق الأول هو أن تكون ذات قدر معين
·        الشق الثاني هو أن تكون ذات صفة محددة
ففي حالة عدم وجود أي من الأمرين يصبح عقد القرض غير جائز ، ولا يصٌح الإقراض بتلك الحالة ، لان احد شروطها الأساسية والذي نص عليه الفقهاء مفقود ، والدافع هو حتى يتمكن المُقترض من رد البدل المماثل للمُقرض ، وعلى ذلك اتفق الفقهاء كما بينا ولا خلاف بينهم فيه .




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق