آداب القرض الحسن
إن الفقه الإسلامي وضع خطوات تبين طرق
تعامل المُقرض مع المُقترض ، وتحدد السُبل المناسبة لوضع نوع من أحوال الود
والتفاهم بين الطرفين ، وحتى لا يسود جو المنازعة والمشاحنة أو الخلاف ، فكان لابد
من وضع معايير تُحقق حُسن المُعاملة ، وتلك المعايير هي آداب القرض فسأذكرها بنوع
من الإسهاب في هذا المبحث بإذن الله تعالى .
وتلك الآداب هي :
اولاً
– آداب التعامل مع المُقترضين .
ثانياً – آداب التعامل
مع المقرضين .
أولاً : (( آداب التعامل مع
المُقترضين)) حيث تُقسم إلى ثلاثة أقسام :
1) إنظار المُعسر والتجاوز عنه .
2) حُسن التقاضي .
3) الوضع من الدين .
1. إنظار المُعسر والتجاوز عنه
:
(في الكتاب) :
أمر الله تعالى أصحاب الحق بإعطاء المُعسر
مهلة حتى يجد ما يستطيع أن يقضي به دَينه ، قال الله تعالى في محكم آياته :﴿ وَإِن
كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ
لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[ البقرة : الآية 280] . يقول الشوكاني في تفسيره
: (العسرة : ضيق الحال من جهة عدم المال ، ومنه جيش العسرة . والنظرة : التأخير ،
والميسرة مصدر بمعنى اليُسر ، وارتفع ( ذو) بكان التامة التي بمعنى وجد ، وهذا قول
سيبويه وأبي علي الفارسي وغيرهما ، لذلك ينبغي إنظار المُعسر إذا كان حقاً معسراً
، وفي مصحف أُبَّي ﴿ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ ﴾ على معنى: وإن كان المطلوب ذا
عسرة)([1]).
فالآية
الكريمة ﴿ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ﴾ هو : إذا كان
المستدين معسراً فعليكم أن تمهلوه إلى وقت اليُسر ، لا كما كان أهل الجاهلية يقول
أحدهم لمدينِه : إما أن تُقضي وإما أن تُربي([2])
، لذلك ينبغي إنظار المُعسر إذا كان حقاً معسراً.
(وفي السنة)
:
نجد هناك العديد من الأحاديث التي تدل على عظم
ثواب إنظار المُعسر، وتيسير أمره ومدى أهمية ذلك الفعل الكريم ، وخاصة إذا كان
الإنسان في حالة ضيق شديد ، أو إعسار عميق .
·
فعن أبي
هريرة t قال :
قال رسول الله r : [ مَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ
يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ]([3])،
وفسر القزويني ( من يسر على مُعسر) : بتأجيل القرض ابتداءً ، أو بعد حلول الأجل الأول([4])
.
·
عن عبد
الله بن أبي قتادة ، أن أبا قتادةt طلب غريماً
له ، فتوارى عنه ، ثم وجده ، فقال : إني مُعْسِر ، فقال : آلله ؟ قال : ألله . قال
: فإني سمعت رسول الله r يقول
: [ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، فَلْيُنَفِّسْ
عَنْ مُعْسِرٍ أَوْ يَضَعْ عَنْهُ]([5])،
وقَصْدُه ( فقال آلله ؟ قال : ألله ) الأول قسَم سؤال ، أي أبالله ؟ وباء القسم تُضْمَر
كثيراً مع الله ، ومعنى فَلْيُنَفِّسْ : فليمد وليؤخر المطالبة ([6]).
·
وفي حديث
آخر عن أهمية إنظار المُعسر والثناء على من يسر عنه ، روى نُفيع أبي داود ، عن بُريدة
الأسلمي ، عن النبيr قال
:[ مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا كَانَ لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ . وَمَنْ أَنْظَرَهُ
بَعْدَ حِلِّهِ كَانَ لَهُ مِثْلُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ]([7]).
و يُوضح الرسولr في حديث
آخر ما كيفية حال الصدقة قبل وبعد الحلول ، فقد روى أبو جعفر الطحاوي عن بُريدة بن
الخصيب قال : قال رسول الله r : [ مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا
كَانَ لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ ، ثُم قُلت : ِبكُلِّ يَوْمٍ مِثْلُهُ صَدَقَةٌ
؛ قال : فقال : ِبكُلِّ يَوْمٍ مالم يَحِلْ الدّيْن فإذا أَنْظَره بعدَ الحِل فلَهُ
ِبكُلِّ يَوْمٍ مِثْلُهُ صَدَقَةٌ]([8])
·
روى البخاري
في صحيحه عن حُذيفة t ، قال
: سَمِعْتُ النَّبِيَّ r يَقُولُ
: [مَاتَ رَجُلٌ فَقِيلَ لَهُ : ما كُنْتَ تَقُولُ؟ قَالَ : كُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ
فَأَتَجَوَّزُ عَنْ الْمُوسِرِ ، وَأُخَفِّفُ عَنْ الْمُعْسِرِ ، فَغُفِرَ لَهُ]([9])
. قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ : سَمِعْتُهُ عَنِ النَّبِيِّ r ، وقوله
يُنْظِرُوا : قصد الإنظار هو على المُعسر سواء كان غنياً أم فقيراً .
·
وأيضاً
في إنظار المُعسر تأتيك المغفرة من الله ، فعن عبد الملك بن عُمير قالَ : سمعتُ رِبعي
بن حراش ، يُحَدثُ عنْ حُذيفةt ، عن النبي
r ؛ [أَنَّ
رَجُلاً مَاتَ . فَقِيلَ لَهُ : مَا عَمِلْتَ؟
(فَإِمَّا ذَكَرَ أَوْ ذُكِّرَ) قَالَ : إِنِّي كُنْتُ أَتَجَوَّزُ فِي السِّكَّةِ
وَالنَّقْد ، وَأُنْظِرُ الْمُعْسِرَ. فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ]([10]).
·
وعن أبي
هريرة t ، عن النبي
r قال
:[ كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ فَإِذَا رَأَى مُعْسِراً ، قَالَ لِفِتْيَانِهِ : تَجَاوَزُوا عَنْهُ ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا ، فَتَجَاوَزَ
اللَّهُ عَنْهُ]([11]).
ومعنى التجاوز والتجوز : المسامحة في الاقتضاء والاستيفاء ، وقبول ما فيه نقصٌ يسير
.
أما نظرة و طبيعة تعامل صحابة النبي r مع المُعسرين ، فقد كان أساسها
المُعتمد هو إنظار المُعسر والتجاوز عنه ، اتباعاً في ذلك لمنهج القرآن
الكريم وإقتداء بالسُنة النبوية الشريفة التي سار عليها الرسول أفضل الصلاة
والتسليم عليه ، وسنذكر هنا مثال واحداً يوضح لنا جانباً من رؤية الصَّحابة لهذه
المسألة :
فعن ربعي بن حراش قال : ( اجتمع حذيفة وأبو
مسعود ، فقال حذيفة : رجلٌ لقِيَ ربهُ ، فقال : ما عملتُ من الخير إلا أني كُنت
رجلاً ذا مال ، فكنت أطالب به الناس ، فكنت أقبل الميسور ، وأتجاوز عن المعسور ،
فقال : تجاوزوا عن عبدي . قال أبو مسعود : هكذا سمعت رسول الله r)([12])
.
قال أبو مالك عن ربعي : (((كنتُ
أُيسر على الموسر، وأُنظر المعسر)).
وتابعه شعبة عن عبد الملك ، عن ربعي . وقال أبو عوانة عن عبد الملك ، عن ربعي : ((أُنظر
الموسر، وأتجاوزعن المُعْسِر)) . وقال
نعيم بن أبي هند عن ربعي : ((فأقبل
من الموسر ، وأتجاوز عن المُعسر)))([13]).
قال سعدي أبو جيب : ( إن فقهاء الأمصار مجمعون
على أن عدم وجود مال للمُقترض ، يؤثر في إسقاط القرض إلى وقت مَيْسرتِهِ )([14]).
ونلاحظ
ونستنتج مما ورد على إنظار المُعسر نوعين من الأحكام وهي :
·
إن إنظار
المُعسر أمرٌ بحُكم الواجب وليس فقط مُستحب ، ويبين ذلك قوله تعالى :﴿وَإِن كَانَ ذُو
عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ َ﴾[البقرة : الآية 280] . قال القرطبي في تفسيره
الآية : (حَكمَ الله جل وعز في ذي العسرة ، بالنظرة إلى حال الميسرة . وقال أيضاً
: وحديث أبي قتادة ، يدل على أن رب الدين ـ القرض يُعتبر من الدين
ـ إذا علم عسرة غريمه ، أو ظنها حَرُمت عليه)([15]).
وقال سيد قطب في تفسيره : (المُعسر هو الذي لا يملك السداد . فهنا كان الأمر في صورة شرط وجواب ؛ بالانتظار حتى يوسر ويقدر على
الوفاء )([16])
، (وضابط الإعسار الذي يوجب الإنظار ، أن لا يكون له مال فائض عن حوائجه الأصلية يفي
به دينه . فلا يُعَدُّ معسراً من كانت أمواله النقدية قاصرة عن وفاء ديونه ، وله أموال
أخرى غير نقدية يستطيع بيعها لوفاء دينه) ([17]).
والله أعلم .
·
نرى في
الأحاديث الشريفة التي تخص إنظار المُعسر ،
الترغيب المنصوص عليه بكونه سبباً للنجاة
في الدارين ، وصولاً إلى مقارنة فاعله بالمتصدق في الانتظار قبل حلول الدين ، وأن صدقته
تتضاعف وثوابه يكْبُر في إنظاره بعد الحلول ، وهذا ما لمسناه في رواية بريدة الأسلمي
عن الرسول r قوله
: [مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا كَانَ لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ . وَمَنْ أَنْظَرَهُ
بَعْدَ حِلِّهِ كَانَ لَهُ مِثْلُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ].
2. حسن التقاضي :
حض النبي الكريم r على حُسن التقاضي ، حيث
أمر صاحب الحق بالامتناع عن كل ما لا يحلُ وقت مطالبتهِ حقَّه .
·
فقد روى عبد الله بن يامين ، عن أَبي هريرة t ، أن رسول
الله r قال لِصَاحِبِ
الْحَقِّ : [ خُذْ حَقَّكَ فِي عَفَافٍ وَافٍ ، أَوْ غَيْرِ وَافٍ]([18]).
قال القزويني في تفسيره الحديث : ((في عفاف) العفاف الكف عن المحارم ، أي فليطلبه حال
كونه ساعياً في عدم الوقوع في المحارم مهما أمكن. (واف أو غير واف) أي تمَ له العفاف
أم لا )([19]).
·
كما حثَ
r على السماحة
في التعامل وترك الخناق على الناس في المطالبة ، وذلك بدعائه r للمتسامحين
في البيع والشراء والاقتضاء ، فقد روى البخاري ، عن جابر بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا ، أن رسول الله r قال
:[رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً سَمْحًا إِذَا بَاعَ ، وَإِذَا اشْتَرَى ، وَإِذَا اقْتَضَى]([20]).
ومعنى ( سمحاً) : السمح الجواد ، يُقال : سمح بكذا ، أي : جاد ، والمُراد هنا المساهلة
([21]).
وهنا الأمر بحسن التقاضي
والسماحة في المعاملة لا يختص بالمُقترض المُعسر فقط ، بل هو يشمل الموسر والمعسر
سواء ، كما هو بيّن في الأحاديث التي أوردناها ، ولكن المُعسِر يكون التقاضي منه
بطريقة تعامل خاصة ، بحكم ظرفه الصعب وضيق حاله .
3. الوضع من الدين
:
وقبل الدخول في تفاصيل الوضع من الدَّين ،
يجب أن نعطي فكرة عن مفهوم الدَّين ، وأسباب حصوله بشكل بسيط ، لكي نحدد جزئية
القرض فيه حتى لا يصبح غموضٌ لدى المطلع على المصطلحين .
الدين([22]) :–
لغة : كل ما ليس حاضراً ، وفي الاصطلاح : هو الواجب في الذمة. ويسمى مَن وجب المال في ذمته : مديناً ، ومن وجب
المال لصالحه : دائناً ، وأسباب حصوله ثلاثة : 1. بالعقد ، 2. بالاستهلاك ، 3.
بالاستقراض :(ولا يسقط الدين إلا بالأداء ، أو بالإبراء أو يعفو الدائن عن
المدين).
وما يهمنا من الدين هو الاستقراض ، فمن أجل
تخفيف العبء عن المُقترض الذي يعاني من مشاكل تسديد ما عليه من دين وصعوبة في
إيفاء كامل ما يتوجب في ذمته ، كان من الأولى وضع الدين كله أو بعضه .
ففي الكتاب :–
نجد توضيحاً لآلية وضع الدين ،
حيث كانت الصورة بينةً وقاطعة وهي بالتصدق ، حين قال الله تعالى :﴿ وَإِن كَانَ
ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن
كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[البقرة : الآية 280] . ذكر الشوكاني في تفسير قوله تعالى: ﴿
وَأَن تَصَدَّقُواْ ﴾ ( أي : وان تصدقوا على معسري غرمائكم بالإبراء خير لكم ،
وفيه الترغيب لهم بأن يتصدقوا برؤوس أموالهم على من أعسر ، وجعل ذلك خيراً من
إنظاره)([23])
.
وقال القرطبي في تفسيره : (﴿ وَأَن تَصَدَّقُواْ
﴾ ابتداء ، وخبره :﴿خَيْرٌ﴾ ، ندب الله
تعالى بهذه الألفاظ إلى الصدقة على المُعسر ، وجعل ذلك خيراً من إنظاره ، والوضع
عنه إسقاط الدين عن ذمته)([24])
، أي أن وضع الدين كله أو جزئه أفضل عند الله تعالى من الإنظار.
في السنة :–
كان توجيه النبي r واضحاً بخصوص وضع الدين
عن المُعسر ، وذلك ببيان فضله ، واعتبار ذلك الفعل هو من أبواب الخير والمعروف .
·
فعن أبي
سعيد الخدري t قال :
(أُصِيبَ رَجُلٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِr فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا ، فَكَثُرَ دَيْنُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : [تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ].فَتَصَدَّقَ
النَّاسُ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
r لِغُرَمَائِهِ
: [خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ ، وَلَيْسَ لَكُمْ إِلا ذَلِكَ]([25]).
·
عن أبي
اليُسر صاحب النبي r قال :
قال رسول الله r :[ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُظِلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ
فَلْيُنْظِرْ مُعْسِرًا ، أَوْ لِيَضَعْ لَهُ]([26]).
فإن الإنظار يُمكن الإنسان من الوقوف في ظل الله ، وهو خير مآب في دار الآخرة .
·
وعن عمرة
بنت عبد الرحمن ، قالت : سَمعْتُ عائشة t تَقولُ
: (سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ r صَوْتَ
خُصُومٍ بِالْبَابِ ، عَالِيَةٍ أَصْوَاتُهُم ، وَإِذَا أَحَدُهُمَا يَسْتَوْضِعُ الآخَرَ
وَيَسْتَرْفِقُهُ فِي شَيْءٍ ، وَهُوَ يَقُولُ : وَاللَّهِ لا أَفْعَلُ ، فَخَرَجَ
عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ r فَقَالَ
: [أَيْنَ الْمُتَأَلِّي عَلَى اللَّهِ لا يَفْعَلُ الْمَعْرُوفَ؟] فَقَالَ
: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلَهُ أَيُّ ذَلِكَ أَحَبَّ)([27]).(إذا
: كلمة للمفاجأة . أحدهما : مبتدأ ، خبره : يستوضع . ويستوضع : يطلب منه أن يرفق به
في التقاضي ، يسترفقه : يطلب منه أن يرفق به
في التقاضي ، فله أي ذلك أحب : هذا من جملة مقول المتألي ، أي فلخصمي ما أحب من الوضع أو الرفق)([28]).
قال النووي في شرح الحديث : ( والألية : اليمين
. وفي هذا كراهة الحلف على ترك الخير ، وإنكار ذلك ، وأنه يستحب لمن حلف لا يفعل
خيراً أن يحنث ، فيكفر عن يمينه ، وفيه شفاعة إلى أصحاب الحقوق ، وقبول الشفاعة في
الخير)([29]).
ونلاحظ بعض الملاحظات مما ورد آنفا بخصوص
التعامل مع المُقترضين من حيث حسنُ التقاضي والوضعُ في الكتاب والسنة :
·
حث القرآن
الكريم على نقطة رئيسية ومهمة ، أن ما يكون من فعل الإنسان الواضع من الدين ، هو أفضل
لدى المؤمن المُقرض بقوله تعالى : ﴿ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ
تَعْلَمُونَ﴾ ، وقد دخل الوضع من الدين هنا
معنى التصدق ، قال سيد قُطب في تفسيره : ( فالله يدعو صاحب الدين أن يتصدق بدينه ؛
إن تطوع بهذا الخير. وهو خير لنفسه كما هو خير للمدين ، وهو خير للجماعة كلها ولحياتها
المتكافلة ، لو كان يعلم ما يعلمه الله من سريرة هذا الأمر)([30])
، وهذا أيضاً ما دل عليه حَثُّ الرسول r على هذا
المبدأ بقوله : [تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ] .
·
هناك أمر
آخر هو دلالة الآية والأحاديث ، على منطق هو أخذ الدين (القرض) بلين ورفق وعفاف ، والامتناع
عن استخدام أسلوب الغلظة والجفاف في أخذ الحق ، وأن الرحمة ستنزل على من يقتضي برحابة
وسماحة ، وهذا ما بيَّنه قول الرسول r [ خُذْ
حَقَّكَ فِي عَفَافٍ] وأيضاً قوله : [رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً سَمْحًا َإِذَا اقْتَضَى]
.
ثانياً : (( آداب التعامل مع المُقرضين )) حيث تُقسم إلى
ثلاث أقسام :
1) حُسن القضاء
2) عدم المماطلة
3) الاهتمام بوفاء القرض
1. حُسن القضاء :
وثناء الرسول r على صاحب القضاء الحسن ، وأنه من خير الناس ، وعبر عنها بحُسن
القضاء ، هذا كلُّه حرصاً من النبي rعلى
حث الناس على القيام بهذا الفعل ، والانتباه له ، وإعطائه جانباً كبيراً من
الأهمية .
·
فقد ذكرنا
فيما سبق حديثاً مروياً عن أبي رافع ، ووضعناه في مبحث مشروعية القرض ، وهو بنفس الوقت
يحُث فيه الرسول r على حُسن
القضاء ، فقد قال الرسول r في آخر
ما روي عن أبي رافع :
[إِنَّ
خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً]([1]).
·
وعن أبي
هريرةt ؛ قال
: قَالَ رسول الله r :[إِنَّ خَيْرَكُمْ أَوْ مِنْ
خَيْرِكُمْ أَحَاسِنُكُمْ قَضَاءً]([2])، قال
القزويني : (((أَحَاسِنُكُمْ قَضَاءً))
أي : الذين يؤدون الدين إلى أصحابه على أحسن وجه )([3]).
·
وعن محارب
)بن دثار( ، قال : سمعت جابر بن عبد الله t، قال : ((كَانَ
لِي عَلَى النَّبِيِّ rدَيْنٌ
، فَقَضَانِي وَزَادَنِي))([4]).
·
عن عبد
الله بن ربيعة المخزومي ؛ أن النبيr اسْتلَفَ
مِنْه ، حِينَ غَزَا حُنَيْنًا ، ثَلاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ أَلْفًا . فَلَمَّا قَدِمَ
قَضَاهَا إِيَّاهُ . ثُمَّ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ r : [بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ . إِنَّمَا جَزَاءُ السَّلَفِ
الْوَفَاءُ وَالْحَمْدُ]([5]).
ويجب توضيح أمر مهم هنا ، إن حسن القضاء يكون بشكل وفاء بزيادة ، لكن
بنفس طيبة ، والزيادة هنا غير مشروطة ، وعلة الأمر أن الزيادة المشروطة تؤدي إلى
الربا المحرم شرعا ، وفق القاعدة القائلة : ( كل قرض جر منفعة فهو ربًا)([6]) ، وقد تلقى كثير من العلماء
هذه القاعدة بالقبول ، وعَضدُها أدلة الكتاب والسنة والإجماع والمعقول والآثار عن
الصحابة والتابعين الدالة على تحريم كل قرض جر منفعة.
ولهذا سنذكر بعض الأقوال المشيرة إلى مضمون هذا الحديث وتوجيهه ، فقد
قال الحافظ ابن حجر الهيتمي من الكبائر : (القرض الذي يجر نفعاً للمقرض ، وذكر هذه
من الكبائر ظاهر ، لأن ذلك في الحقيقة ربًا )([7]).
أما الإمام مالك فقال : (
أنه بلغه أن عبد الله بن مسعود كان يقول : من أسلف سلفاً ، فلا يشترط أفضل منه ،
وإن كان قبضة من علف فهو ربا) ([8]). ووضح الإمام مالك هذه
المسألة ، حين قال :( لا بأس بأن يُقبض من أسلف شيئاً من الذهب ، أو الورق ، أو
الطعام ، أو الحيوان ، ممن أسلفه ذلك ، أفضل مما أسلفه ، إذا لم يكن ذلك على شرط
منهما ، أو عادة ، فإن كان ذلك على شرط ، أو وأْيِ ( أي مواعدة) ، أو عادة ،
فذلك مكروه ولا خير فيه) . وقال أيضاً ( فإن كان ذلك على طيب نفسٍ من المُستَسْلِف
، ولم يكن ذلكَ على شرْط ولا وأْيٍ ، ولا عادةٍ ، كان ذلك حلالاً لا بأْس به )([9]).
وقال السيد سابق : (والحرمة مقيدة هنا بما إذا كان نفع القرض مشروطاً
أو متعارف عليه ، فإن لم يكن مشروطاً ولا متعارفاً عليه ، فللمُقترض أن يقضي خيراً
من القرض ، في الصفة أو يزيد عليه في المقدار ، أو يبيع منه داره إن كان قد شرط أن
يبيعها منه ، وللمقرض حق الأخذ دون كراهة)([10]).
وقال الكاساني : ( فأما إذا كانت الزيادة غير مشروط في القرض ، ولكن
المستقرض أعطاه أجودهما فلا بأس بذلك ، بل هذا من باب حسن القضاء ، وأنه أمر مندوب
إليه )([11]) ، ولذلك ( يجوز للمقترض أن
يرد أفضل من المثل ، إذا لم يكن ذلك عن شرط سابق ، ويكون من باب حُسن القضاء)([12]).
وخلاصة القول نجده لدى البهوتي في شرح زاد المستنقع ، حين قال
: (ويحرم اشتراط كل شرط جر نفعاً ـ كأن يسكنه داره أو يقضيه خيراً منه ـ لأنه عقد
إرفاق وقربة ، فإذا شرط فيه الزيادة أخرجه عن موضوعه ، )وإن بدأ به( أي بما فيه
نفع كسكنى داره ،)بلا شرط( ولا مواطأة
بعد الوفاء جاز لا قبله ، أو أعطاه أجود بلا شرط جاز ، لأنه r استسلف بكراً
فرد خيراً منه ، وقال : [خَيْرُكُمْ أَحَسنُكُمْ
قَضَاءً] متفق عليه ، أو أعطاه هدية بعد الوفاء جاز)
([13]) ، لأنه لم يجعل تلك الزيادة
عوضاً في القرض ، ولا وسيلة إليه .
وبالإضافة إلى حسن القضاء
بالنسبة للمقترض ، يجب القول بإخلاص النية معها وهو مطالب بها ، ( لأن المقترض
يؤمر كذلك ، بإخلاص النية وحسن الأداء ، فلا يقترض إلا من حاجة ، ويعزم على حسن
القضاء ويحفظ للمقرض معروفه وإحسانه ، فإن استطاع أن يكافئه على عمله فعل ، وإلا
فليَدْعُ له بظهر الغيب )([14]).
ومن الأقوال التي ذكرناها للفقهاء نرى أن هناك آراء متباينة وأقوال
مختلفة نوضحها بشكل تحليلي ، وعلى ذلك فقد لاحظنا أن هناك نوعين للمنافع في القرض
: الأول "المنفعة المشروطة" ، والثاني " المنفعة الغير
مشروطة".
النوع الأول : ( المنفعة المشروطة ) وهي :
الزيادة في بدل القرض :
فالواجب في بدل القرض رد البدل المساوي في الصفة والقدر. فقد اتفق
العلماء على تحريم اشتراط الزيادة في بدل القرض للمقرض ، وأن هذه الزيادة ربا ،
سواء كانت الزيادة في الصفة ـ كأن يشترط على المقترض رد أجود مما أخذ ـ ؛ أم عيناً
ـ كأن يقترض مالاً ويشترط عليه رده مع هدية من مال آخرـ ؛ أم منفعة ـ كأن يقترض
مالاً ويشترط عليه رده مع عمل المقترض عند المقرض ـ وتسمى الزيادة المشروطة في
القرض : ربا القرض ، وهي من ربا الجاهلية .
ووجه الاستدلال هنا ، هو أن
صورة القرض في الحقيقة هي صورة ربا النسيئة ، لكن لما كان مبنى القرض التبرع ومبنى
البيع المعاوضة غاير الشارع بينهما في الحكم ، فإذا اشترطت الزيادة في القرض خرج
عن موضوعه وهو التبرع والإرفاق إلى المعاوضة فجرى فيه ما يجري فيها ، فتتقيد بما
يتقيد به البيع فيها ، وهذه القيود نجدها في حديث النبي r ، فقد قال
الرسول r :[الذَّهَبُ
بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرُ
بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلًا بِمِثْلٍ
سَوَاءً بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأصْنَافُ فَبِيعُوا
كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ]([15]).
النوع الثاني :(المنفعة غير المشروطة في
القرض) وهي قسمان ؛
القسم
الأول : المنافع المادية
وبدورها تقسم إلى فرعين :
أ-
المنافع المادية غير المشروطة عند الوفاء :
اتفق العلماء على تحريم الزيادة ( في القدر والصفة ) المشروطة في
بدل القرض للمقرض ، واختلفوا في حكمها إذا لم تكون مشروطة على أقوال ، والراجح
منها والذي بيناه خلال الكلام عن حسن القضاء هو الجواز وهذا ما دل عليه قول الرسول
r :
[إِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً]([16]). إذا كانت الزيادة على سبيل
البر والمعروف ، بل يستحب للمقترض ذلك ، وهذا قول السنة وجماهير أهل العلم ، سواء
أعرف المقترض عند الناس بحسن القضاء أم لا ، وقد سقنا النصوص النبوية الدالة على
أن النبي r كان معروفاً
بحسن القضاء ، ومع ذلك لم يكن إقراضه محرماً ولا مكروهاً ، وهذا هو من باب مشروعية
الزيادة عن رضا وقبول .
ب- المنافع المادية غير المشروطة قبل الوفاء
إذا بذل المقترض للمقرض منفعة غير مشروطة أثناء مدة القرض (قبل
الوفاء) مثل : الهدية للمقرض ـوهي أكثر ما يمثل به الفقهاء ـ ومثل الاستضافة أو
ركوب الدابة ، والمساعدة على عمل من الأعمال ، ونحو ذلك من المنافع التي قد يبذلها
المقترض قبل الوفاء فقد أختلف العلماء في حكمها إذا كانت تلك المنافع من غير شرط ،
والراجح لدى الفقهاء المنع إن كانت تلك المنافع من أجل القرض أو في
مقابله ، أي من أجل أن يؤخر المقرض استيفاء القرض ، وهذه الصورة هي قريبة من صورة
ربا الجاهلية حيث كان يقول المقرض للمقترض حين يحل أجل القرض إما تدفع أو تربي )منفعة مشروطة أياً كانت( . فقد تكون
غير مشروطة من خلال هدية أو ركوب دابة قبل الوفاء ، وقياس هذه على تلك نرى أنهم
صورة واحدة للربا ، لان المنفعة الحاصلة قبل الوفاء كانت بسبب القرض حتى لو كانت
بدون شرط .
لكن هناك استثناء يبيح أخذ المنفعة إن كانت ليست
من أجل القرض ، مثل إذا كانت قد جرت العادة بينهما بذلك قبل القرض فإنه يجوز ،
ويدل على هذا الكلام حديث أنس بن مالك t قال : قال رسول الله r[إِذَا
أَقْرَضَ أَحَدُكُمْ قَرْضًا فَأَهْدَى لَهُ أَوْ حَمَلَهُ عَلَى الدَّابَّةِ فَلا
يَرْكَبْهَا وَلَا يَقْبَلْهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ
قَبْلَ ذَلِكَ]([17]).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق