الجمعة، 21 فبراير 2014

آداب التعامل القرض الحسن



   آداب القرض الحسن  
      إن الفقه الإسلامي وضع خطوات تبين طرق تعامل المُقرض مع المُقترض ، وتحدد السُبل المناسبة لوضع نوع من أحوال الود والتفاهم بين الطرفين ، وحتى لا يسود جو المنازعة والمشاحنة أو الخلاف ، فكان لابد من وضع معايير تُحقق حُسن المُعاملة ، وتلك المعايير هي آداب القرض فسأذكرها بنوع من الإسهاب في هذا المبحث بإذن الله تعالى .
 وتلك الآداب هي :
اولاً    آداب التعامل مع المُقترضين .
ثانياً   آداب التعامل مع المقرضين .
        أولاً : (( آداب التعامل مع المُقترضين))  حيث تُقسم إلى ثلاثة أقسام :
1)    إنظار المُعسر والتجاوز عنه .
2)    حُسن التقاضي .
3)    الوضع من الدين .
1.     إنظار المُعسر والتجاوز عنه :
      (في الكتاب) :
      أمر الله تعالى أصحاب الحق بإعطاء المُعسر مهلة حتى يجد ما يستطيع أن يقضي به دَينه ، قال الله تعالى في محكم آياته :﴿ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[ البقرة : الآية 280] . يقول الشوكاني في تفسيره : (العسرة : ضيق الحال من جهة عدم المال ، ومنه جيش العسرة . والنظرة : التأخير ، والميسرة مصدر بمعنى اليُسر ، وارتفع ( ذو) بكان التامة التي بمعنى وجد ، وهذا قول سيبويه وأبي علي الفارسي وغيرهما ، لذلك ينبغي إنظار المُعسر إذا كان حقاً معسراً ، وفي مصحف أُبَّي ﴿ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ ﴾ على معنى: وإن كان المطلوب ذا عسرة)([1]).
 فالآية الكريمة ﴿ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ﴾ هو : إذا كان المستدين معسراً فعليكم أن تمهلوه إلى وقت اليُسر ، لا كما كان أهل الجاهلية يقول أحدهم لمدينِه : إما أن تُقضي وإما أن تُربي([2]) ، لذلك ينبغي إنظار المُعسر إذا كان حقاً معسراً.
(وفي السنة) :
نجد هناك العديد من الأحاديث التي تدل على عظم ثواب إنظار المُعسر، وتيسير أمره ومدى أهمية ذلك الفعل الكريم ، وخاصة إذا كان الإنسان في حالة ضيق شديد ، أو إعسار عميق .
·        فعن أبي هريرة t قال : قال رسول الله r : [ مَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ]([3])، وفسر القزويني ( من يسر على مُعسر) : بتأجيل القرض ابتداءً ، أو بعد حلول الأجل الأول([4]) .
·        عن عبد الله بن أبي قتادة ، أن أبا قتادةt  طلب غريماً له ، فتوارى عنه ، ثم وجده ، فقال : إني مُعْسِر ، فقال : آلله ؟ قال : ألله . قال : فإني سمعت رسول الله r يقول : [ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ أَوْ يَضَعْ عَنْهُ]([5])، وقَصْدُه ( فقال آلله ؟ قال : ألله ) الأول قسَم سؤال ، أي أبالله ؟ وباء القسم تُضْمَر كثيراً مع الله ، ومعنى فَلْيُنَفِّسْ : فليمد وليؤخر المطالبة ([6]).
·        وفي حديث آخر عن أهمية إنظار المُعسر والثناء على من يسر عنه ، روى نُفيع أبي داود ، عن بُريدة الأسلمي ، عن النبيr قال :[ مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا كَانَ لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ . وَمَنْ أَنْظَرَهُ بَعْدَ حِلِّهِ كَانَ لَهُ مِثْلُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ]([7]). و يُوضح الرسولr في حديث آخر ما كيفية حال الصدقة قبل وبعد الحلول ، فقد روى أبو جعفر الطحاوي عن بُريدة بن الخصيب قال : قال رسول الله r : [ مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا كَانَ لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ ، ثُم قُلت : ِبكُلِّ يَوْمٍ مِثْلُهُ صَدَقَةٌ ؛ قال : فقال : ِبكُلِّ يَوْمٍ مالم يَحِلْ الدّيْن فإذا أَنْظَره بعدَ الحِل فلَهُ ِبكُلِّ يَوْمٍ مِثْلُهُ صَدَقَةٌ]([8])
·        روى البخاري في صحيحه عن حُذيفة t ، قال : سَمِعْتُ النَّبِيَّ r يَقُولُ : [مَاتَ رَجُلٌ فَقِيلَ لَهُ : ما كُنْتَ تَقُولُ؟ قَالَ : كُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ فَأَتَجَوَّزُ عَنْ الْمُوسِرِ ، وَأُخَفِّفُ عَنْ الْمُعْسِرِ ، فَغُفِرَ لَهُ]([9]) . قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ : سَمِعْتُهُ عَنِ النَّبِيِّ r ، وقوله يُنْظِرُوا : قصد الإنظار هو على المُعسر سواء كان غنياً أم فقيراً .
·        وأيضاً في إنظار المُعسر تأتيك المغفرة من الله ، فعن عبد الملك بن عُمير قالَ : سمعتُ رِبعي بن حراش ، يُحَدثُ عنْ حُذيفةt ، عن النبي r ؛ [أَنَّ رَجُلاً مَاتَ . فَقِيلَ لَهُ :  مَا عَمِلْتَ؟ (فَإِمَّا ذَكَرَ أَوْ ذُكِّرَ) قَالَ : إِنِّي كُنْتُ أَتَجَوَّزُ فِي السِّكَّةِ وَالنَّقْد ، وَأُنْظِرُ الْمُعْسِرَ. فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ]([10]).
·        وعن أبي هريرة t ، عن النبي r قال :[ كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ فَإِذَا رَأَى مُعْسِراً ،  قَالَ لِفِتْيَانِهِ : تَجَاوَزُوا عَنْهُ ،  لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا ، فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ]([11]). ومعنى التجاوز والتجوز : المسامحة في الاقتضاء والاستيفاء ، وقبول ما فيه نقصٌ يسير .
أما نظرة و طبيعة تعامل صحابة النبي r مع المُعسرين ، فقد كان أساسها  المُعتمد هو إنظار المُعسر والتجاوز عنه ، اتباعاً في ذلك لمنهج القرآن الكريم وإقتداء بالسُنة النبوية الشريفة التي سار عليها الرسول أفضل الصلاة والتسليم عليه ، وسنذكر هنا مثال واحداً يوضح لنا جانباً من رؤية الصَّحابة لهذه المسألة :
فعن ربعي بن حراش قال : ( اجتمع حذيفة وأبو مسعود ، فقال حذيفة : رجلٌ لقِيَ ربهُ ، فقال : ما عملتُ من الخير إلا أني كُنت رجلاً ذا مال ، فكنت أطالب به الناس ، فكنت أقبل الميسور ، وأتجاوز عن المعسور ، فقال : تجاوزوا عن عبدي . قال أبو مسعود : هكذا سمعت رسول الله r)([12]) .
قال أبو مالك عن ربعي : (((كنتُ أُيسر على الموسر، وأُنظر المعسر)). وتابعه شعبة عن عبد الملك ، عن ربعي . وقال أبو عوانة عن عبد الملك ، عن ربعي : ((أُنظر الموسر، وأتجاوزعن المُعْسِر)) . وقال نعيم بن أبي هند عن ربعي : ((فأقبل من الموسر ، وأتجاوز عن المُعسر)))([13]).
قال سعدي أبو جيب : ( إن فقهاء الأمصار مجمعون على أن عدم وجود مال للمُقترض ، يؤثر في إسقاط القرض إلى وقت مَيْسرتِهِ )([14]).

ونلاحظ ونستنتج مما ورد على إنظار المُعسر نوعين من الأحكام وهي :
·        إن إنظار المُعسر أمرٌ بحُكم الواجب وليس فقط مُستحب ، ويبين ذلك قوله تعالى :﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ َ﴾[البقرة : الآية 280] . قال القرطبي في تفسيره الآية : (حَكمَ الله جل وعز في ذي العسرة ، بالنظرة إلى حال الميسرة . وقال أيضاً : وحديث أبي قتادة ، يدل على أن رب الدين ـ القرض يُعتبر من الدين ـ إذا علم عسرة غريمه ، أو ظنها حَرُمت عليه)([15]). وقال سيد قطب في تفسيره : (المُعسر هو الذي لا يملك السداد . فهنا كان الأمر  في صورة شرط وجواب ؛ بالانتظار حتى يوسر ويقدر على الوفاء )([16]) ، (وضابط الإعسار الذي يوجب الإنظار ، أن لا يكون له مال فائض عن حوائجه الأصلية يفي به دينه . فلا يُعَدُّ معسراً من كانت أمواله النقدية قاصرة عن وفاء ديونه ، وله أموال أخرى غير نقدية يستطيع بيعها لوفاء دينه) ([17]). والله أعلم .
·        نرى في الأحاديث الشريفة التي تخص إنظار المُعسر ، الترغيب المنصوص عليه بكونه سبباً للنجاة في الدارين ، وصولاً إلى مقارنة فاعله بالمتصدق في الانتظار قبل حلول الدين ، وأن صدقته تتضاعف وثوابه يكْبُر في إنظاره بعد الحلول ، وهذا ما لمسناه في رواية بريدة الأسلمي عن الرسول r قوله : [مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا كَانَ لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ . وَمَنْ أَنْظَرَهُ بَعْدَ حِلِّهِ كَانَ لَهُ مِثْلُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ].
 
2.     حسن التقاضي :
حض النبي الكريم r على حُسن التقاضي ، حيث أمر صاحب الحق بالامتناع عن كل ما لا يحلُ وقت مطالبتهِ حقَّه .
·         فقد روى عبد الله بن يامين ، عن أَبي هريرة t ، أن رسول الله r قال لِصَاحِبِ الْحَقِّ : [ خُذْ حَقَّكَ فِي عَفَافٍ وَافٍ ، أَوْ غَيْرِ وَافٍ]([18]). قال القزويني في تفسيره الحديث : ((في عفاف) العفاف الكف عن المحارم ، أي فليطلبه حال كونه ساعياً في عدم الوقوع في المحارم مهما أمكن. (واف أو غير واف) أي تمَ له العفاف أم لا )([19]).
·         كما حثَ r على السماحة في التعامل وترك الخناق على الناس في المطالبة ، وذلك بدعائه r للمتسامحين في البيع والشراء والاقتضاء ، فقد روى البخاري ، عن جابر بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، أن رسول الله r قال :[رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً سَمْحًا إِذَا بَاعَ ، وَإِذَا اشْتَرَى ، وَإِذَا اقْتَضَى]([20]). ومعنى ( سمحاً) : السمح الجواد ، يُقال : سمح بكذا ، أي : جاد ، والمُراد هنا المساهلة ([21]).
وهنا الأمر بحسن التقاضي والسماحة في المعاملة لا يختص بالمُقترض المُعسر فقط ، بل هو يشمل الموسر والمعسر سواء ، كما هو بيّن في الأحاديث التي أوردناها ، ولكن المُعسِر يكون التقاضي منه بطريقة تعامل خاصة ، بحكم ظرفه الصعب وضيق حاله .


3.     الوضع من الدين :
     وقبل الدخول في تفاصيل الوضع من الدَّين ، يجب أن نعطي فكرة عن مفهوم الدَّين ، وأسباب حصوله بشكل بسيط ، لكي نحدد جزئية القرض فيه حتى لا يصبح غموضٌ لدى المطلع على المصطلحين .
      الدين([22]) :– لغة : كل ما ليس حاضراً ، وفي الاصطلاح : هو الواجب في الذمة. ويسمى  مَن وجب المال في ذمته : مديناً ، ومن وجب المال لصالحه : دائناً ، وأسباب حصوله ثلاثة : 1. بالعقد ، 2. بالاستهلاك ، 3. بالاستقراض :(ولا يسقط الدين إلا بالأداء ، أو بالإبراء أو يعفو الدائن عن المدين).
     وما يهمنا من الدين هو الاستقراض ، فمن أجل تخفيف العبء عن المُقترض الذي يعاني من مشاكل تسديد ما عليه من دين وصعوبة في إيفاء كامل ما يتوجب في ذمته ، كان من الأولى وضع الدين كله أو بعضه .
ففي الكتاب :­–
نجد توضيحاً لآلية وضع الدين ، حيث كانت الصورة بينةً وقاطعة وهي بالتصدق ، حين قال الله تعالى :﴿ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[البقرة : الآية 280] . ذكر الشوكاني في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَأَن تَصَدَّقُواْ ﴾ ( أي : وان تصدقوا على معسري غرمائكم بالإبراء خير لكم ، وفيه الترغيب لهم بأن يتصدقوا برؤوس أموالهم على من أعسر ، وجعل ذلك خيراً من إنظاره)([23]) .
وقال القرطبي في تفسيره : (﴿ وَأَن تَصَدَّقُواْ ﴾ ابتداء ، وخبره :﴿خَيْرٌ﴾ ،  ندب الله تعالى بهذه الألفاظ إلى الصدقة على المُعسر ، وجعل ذلك خيراً من إنظاره ، والوضع عنه إسقاط الدين عن ذمته)([24]) ، أي أن وضع الدين كله أو جزئه أفضل عند الله تعالى من الإنظار.
في السنة :–
كان توجيه النبي r واضحاً بخصوص وضع الدين عن المُعسر ، وذلك ببيان فضله ، واعتبار ذلك الفعل هو من أبواب الخير والمعروف .
·       فعن أبي سعيد الخدري t قال : (أُصِيبَ رَجُلٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِr فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا ،  فَكَثُرَ دَيْنُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : [تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ].فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r لِغُرَمَائِهِ : [خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ ، وَلَيْسَ لَكُمْ إِلا ذَلِكَ]([25]).
·       عن أبي اليُسر صاحب النبي r قال : قال رسول الله r :[ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُظِلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ فَلْيُنْظِرْ مُعْسِرًا ، أَوْ لِيَضَعْ لَهُ]([26]). فإن الإنظار يُمكن الإنسان من الوقوف في ظل الله ، وهو خير مآب في دار الآخرة .
·       وعن عمرة بنت عبد الرحمن ، قالت : سَمعْتُ عائشة t تَقولُ : (سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ r صَوْتَ خُصُومٍ بِالْبَابِ ، عَالِيَةٍ أَصْوَاتُهُم ، وَإِذَا أَحَدُهُمَا يَسْتَوْضِعُ الآخَرَ وَيَسْتَرْفِقُهُ فِي شَيْءٍ ، وَهُوَ يَقُولُ : وَاللَّهِ لا أَفْعَلُ ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ r فَقَالَ : [أَيْنَ الْمُتَأَلِّي عَلَى اللَّهِ لا يَفْعَلُ الْمَعْرُوفَ؟] فَقَالَ : أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلَهُ أَيُّ ذَلِكَ أَحَبَّ)([27]).(إذا : كلمة للمفاجأة . أحدهما : مبتدأ ، خبره : يستوضع . ويستوضع : يطلب منه أن يرفق به في التقاضي ، يسترفقه : يطلب منه  أن يرفق به في التقاضي ،  فله أي ذلك أحب : هذا من جملة  مقول المتألي ، أي فلخصمي ما أحب من الوضع أو الرفق)([28]).
قال النووي في شرح الحديث : ( والألية : اليمين . وفي هذا كراهة الحلف على ترك الخير ، وإنكار ذلك ، وأنه يستحب لمن حلف لا يفعل خيراً أن يحنث ، فيكفر عن يمينه ، وفيه شفاعة إلى أصحاب الحقوق ، وقبول الشفاعة في الخير)([29]).
ونلاحظ بعض الملاحظات مما ورد آنفا بخصوص التعامل مع المُقترضين من حيث حسنُ التقاضي والوضعُ في الكتاب والسنة :
·       حث القرآن الكريم على نقطة رئيسية ومهمة ، أن ما يكون من فعل الإنسان الواضع من الدين ، هو أفضل لدى المؤمن المُقرض بقوله تعالى : ﴿ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ، وقد دخل الوضع من الدين  هنا معنى التصدق ، قال سيد قُطب في تفسيره : ( فالله يدعو صاحب الدين أن يتصدق بدينه ؛ إن تطوع بهذا الخير. وهو خير لنفسه كما هو خير للمدين ، وهو خير للجماعة كلها ولحياتها المتكافلة ، لو كان يعلم ما يعلمه الله من سريرة هذا الأمر)([30]) ، وهذا أيضاً ما دل عليه حَثُّ الرسول r على هذا المبدأ بقوله : [تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ] .
·       هناك أمر آخر هو دلالة الآية والأحاديث ، على منطق هو أخذ الدين (القرض) بلين ورفق وعفاف ، والامتناع عن استخدام أسلوب الغلظة والجفاف في أخذ الحق ، وأن الرحمة ستنزل على من يقتضي برحابة وسماحة ، وهذا ما بيَّنه قول الرسول r [ خُذْ حَقَّكَ فِي عَفَافٍ] وأيضاً قوله : [رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً سَمْحًا َإِذَا اقْتَضَى] . 


ثانياً : (( آداب التعامل مع المُقرضين )) حيث تُقسم إلى ثلاث أقسام :
1)    حُسن القضاء
2)    عدم المماطلة
3)    الاهتمام بوفاء القرض
1.     حُسن القضاء :
وثناء الرسول r على صاحب القضاء الحسن ، وأنه من خير الناس ، وعبر عنها بحُسن القضاء ، هذا كلُّه حرصاً من النبي  rعلى حث الناس على القيام بهذا الفعل ، والانتباه له ، وإعطائه جانباً كبيراً من الأهمية .
·        فقد ذكرنا فيما سبق حديثاً مروياً عن أبي رافع ، ووضعناه في مبحث مشروعية القرض ، وهو بنفس الوقت يحُث فيه الرسول r على حُسن القضاء ، فقد قال الرسول r في آخر ما روي عن أبي رافع  : [إِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً]([1]).
·        وعن أبي هريرةt ؛ قال : قَالَ رسول الله r :[إِنَّ خَيْرَكُمْ أَوْ مِنْ خَيْرِكُمْ أَحَاسِنُكُمْ قَضَاءً]([2])، قال القزويني : (((أَحَاسِنُكُمْ قَضَاءً)) أي : الذين يؤدون الدين إلى أصحابه على أحسن وجه )([3]).
·        وعن محارب )بن دثار( ، قال : سمعت جابر بن عبد الله t، قال : ((كَانَ لِي عَلَى النَّبِيِّ rدَيْنٌ ، فَقَضَانِي وَزَادَنِي))([4]).
·        عن عبد الله بن ربيعة المخزومي ؛ أن النبيr اسْتلَفَ مِنْه ، حِينَ غَزَا حُنَيْنًا ، ثَلاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ أَلْفًا . فَلَمَّا قَدِمَ قَضَاهَا إِيَّاهُ . ثُمَّ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ r : [بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ . إِنَّمَا جَزَاءُ السَّلَفِ الْوَفَاءُ وَالْحَمْدُ]([5]).
ويجب توضيح أمر مهم هنا ، إن حسن القضاء يكون بشكل وفاء بزيادة ، لكن بنفس طيبة ، والزيادة هنا غير مشروطة ، وعلة الأمر أن الزيادة المشروطة تؤدي إلى الربا المحرم شرعا ، وفق القاعدة القائلة : ( كل قرض جر منفعة فهو ربًا)([6]) ، وقد تلقى كثير من العلماء هذه القاعدة بالقبول ، وعَضدُها أدلة الكتاب والسنة والإجماع والمعقول والآثار عن الصحابة والتابعين الدالة على تحريم كل قرض جر منفعة.
ولهذا سنذكر بعض الأقوال المشيرة إلى مضمون هذا الحديث وتوجيهه ، فقد قال الحافظ ابن حجر الهيتمي من الكبائر : (القرض الذي يجر نفعاً للمقرض ، وذكر هذه من الكبائر ظاهر ، لأن ذلك في الحقيقة ربًا )([7]).
 أما الإمام مالك فقال : ( أنه بلغه أن عبد الله بن مسعود كان يقول : من أسلف سلفاً ، فلا يشترط أفضل منه ، وإن كان قبضة من علف فهو ربا) ([8]). ووضح الإمام مالك هذه المسألة ، حين قال :( لا بأس بأن يُقبض من أسلف شيئاً من الذهب ، أو الورق ، أو الطعام ، أو الحيوان ، ممن أسلفه ذلك ، أفضل مما أسلفه ، إذا لم يكن ذلك على شرط منهما ، أو عادة ، فإن كان ذلك على شرط ، أو وأْيِ­­ ( أي مواعدة) ، أو عادة ، فذلك مكروه ولا خير فيه) . وقال أيضاً ( فإن كان ذلك على طيب نفسٍ من المُستَسْلِف ، ولم يكن ذلكَ على شرْط ولا وأْيٍ ، ولا عادةٍ ، كان ذلك حلالاً لا بأْس به )([9]).
وقال السيد سابق : (والحرمة مقيدة هنا بما إذا كان نفع القرض مشروطاً أو متعارف عليه ، فإن لم يكن مشروطاً ولا متعارفاً عليه ، فللمُقترض أن يقضي خيراً من القرض ، في الصفة أو يزيد عليه في المقدار ، أو يبيع منه داره إن كان قد شرط أن يبيعها منه ، وللمقرض حق الأخذ دون كراهة)([10]).
وقال الكاساني : ( فأما إذا كانت الزيادة غير مشروط في القرض ، ولكن المستقرض أعطاه أجودهما فلا بأس بذلك ، بل هذا من باب حسن القضاء ، وأنه أمر مندوب إليه )([11]) ، ولذلك ( يجوز للمقترض أن يرد أفضل من المثل ، إذا لم يكن ذلك عن شرط سابق ، ويكون من باب حُسن القضاء)([12]).
وخلاصة القول نجده لدى البهوتي في شرح زاد المستنقع ، حين قال : (ويحرم اشتراط كل شرط جر نفعاً ـ كأن يسكنه داره أو يقضيه خيراً منه ـ لأنه عقد إرفاق وقربة ، فإذا شرط فيه الزيادة أخرجه عن موضوعه ، )وإن بدأ به( أي بما فيه نفع كسكنى داره ،)بلا شرط( ولا مواطأة بعد الوفاء جاز لا قبله ، أو أعطاه أجود بلا شرط جاز ، لأنه r استسلف بكراً فرد خيراً منه ، وقال : [خَيْرُكُمْ أَحَسنُكُمْ قَضَاءً] متفق عليه ، أو أعطاه هدية بعد الوفاء جاز) ([13]) ، لأنه لم يجعل تلك الزيادة عوضاً في القرض ، ولا وسيلة إليه .
 وبالإضافة إلى حسن القضاء بالنسبة للمقترض ، يجب القول بإخلاص النية معها وهو مطالب بها ، ( لأن المقترض يؤمر كذلك ، بإخلاص النية وحسن الأداء ، فلا يقترض إلا من حاجة ، ويعزم على حسن القضاء ويحفظ للمقرض معروفه وإحسانه ، فإن استطاع أن يكافئه على عمله فعل ، وإلا فليَدْعُ له بظهر الغيب )([14]).
ومن الأقوال التي ذكرناها للفقهاء نرى أن هناك آراء متباينة وأقوال مختلفة نوضحها بشكل تحليلي ، وعلى ذلك فقد لاحظنا أن هناك نوعين للمنافع في القرض : الأول "المنفعة المشروطة" ، والثاني " المنفعة الغير مشروطة".
      النوع الأول : ( المنفعة  المشروطة ) وهي :
      الزيادة في بدل القرض :
فالواجب في بدل القرض رد البدل المساوي في الصفة والقدر. فقد اتفق العلماء على تحريم اشتراط الزيادة في بدل القرض للمقرض ، وأن هذه الزيادة ربا ، سواء كانت الزيادة في الصفة ـ كأن يشترط على المقترض رد أجود مما أخذ ـ ؛ أم عيناً ـ كأن يقترض مالاً ويشترط عليه رده مع هدية من مال آخرـ ؛ أم منفعة ـ كأن يقترض مالاً ويشترط عليه رده مع عمل المقترض عند المقرض ـ وتسمى الزيادة المشروطة في القرض : ربا القرض ، وهي من ربا الجاهلية .
 ووجه الاستدلال هنا ، هو أن صورة القرض في الحقيقة هي صورة ربا النسيئة ، لكن لما كان مبنى القرض التبرع ومبنى البيع المعاوضة غاير الشارع بينهما في الحكم ، فإذا اشترطت الزيادة في القرض خرج عن موضوعه وهو التبرع والإرفاق إلى المعاوضة فجرى فيه ما يجري فيها ، فتتقيد بما يتقيد به البيع فيها ، وهذه القيود نجدها في حديث النبي r ، فقد قال الرسول r :[الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلًا بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ]([15]).
     النوع الثاني :(المنفعة غير المشروطة في القرض) وهي قسمان ؛
القسم الأول : المنافع المادية وبدورها تقسم إلى فرعين :
أ‌-       المنافع المادية غير المشروطة عند الوفاء :
اتفق العلماء على تحريم الزيادة ­­( في القدر والصفة ) المشروطة في بدل القرض للمقرض ، واختلفوا في حكمها إذا لم تكون مشروطة على أقوال ، والراجح منها والذي بيناه خلال الكلام عن حسن القضاء هو الجواز وهذا ما دل عليه قول الرسول r : [إِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً]([16]). إذا كانت الزيادة على سبيل البر والمعروف ، بل يستحب للمقترض ذلك ، وهذا قول السنة وجماهير أهل العلم ، سواء أعرف المقترض عند الناس بحسن القضاء أم لا ، وقد سقنا النصوص النبوية الدالة على أن النبي r كان معروفاً بحسن القضاء ، ومع ذلك لم يكن إقراضه محرماً ولا مكروهاً ، وهذا هو من باب مشروعية الزيادة عن رضا وقبول .
ب‌-  المنافع المادية غير المشروطة قبل الوفاء
إذا بذل المقترض للمقرض منفعة غير مشروطة أثناء مدة القرض (قبل الوفاء) مثل : الهدية للمقرض ـوهي أكثر ما يمثل به الفقهاء ـ ومثل الاستضافة أو ركوب الدابة ، والمساعدة على عمل من الأعمال ، ونحو ذلك من المنافع التي قد يبذلها المقترض قبل الوفاء فقد أختلف العلماء في حكمها إذا كانت تلك المنافع من غير شرط ،
والراجح لدى الفقهاء المنع إن كانت تلك المنافع من أجل القرض أو في مقابله ، أي من أجل أن يؤخر المقرض استيفاء القرض ، وهذه الصورة هي قريبة من صورة ربا الجاهلية حيث كان يقول المقرض للمقترض حين يحل أجل القرض إما تدفع أو تربي )منفعة مشروطة أياً كانت( . فقد تكون غير مشروطة من خلال هدية أو ركوب دابة قبل الوفاء ، وقياس هذه على تلك نرى أنهم صورة واحدة للربا ، لان المنفعة الحاصلة قبل الوفاء كانت بسبب القرض حتى لو كانت بدون شرط .
لكن هناك استثناء يبيح أخذ المنفعة إن كانت ليست من أجل القرض ، مثل إذا كانت قد جرت العادة بينهما بذلك قبل القرض فإنه يجوز ، ويدل على هذا الكلام  حديث أنس بن مالك t  قال : قال رسول الله r[إِذَا أَقْرَضَ أَحَدُكُمْ قَرْضًا فَأَهْدَى لَهُ أَوْ حَمَلَهُ عَلَى الدَّابَّةِ فَلا يَرْكَبْهَا وَلَا يَقْبَلْهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَبْلَ ذَلِكَ]([17]).


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق