الخميس، 27 فبراير 2014

علم علوم القانون



علم القانون
يذهب اتجاه فقهي قانوني تزعمُه الفقيه جيني (1) ، الى ان كل قاعدة من قواعد القانون تنطوي من حيث مضمون وشكل صياغتها فكريا على عنصرين ينبغي التمييز بينهما ، احدهما عنصر العلم وهو عنصر موضوعي يقوم على جملة معطيات تتسم بطابع سياسي واجتماعي ، والاخر عنصر خارجي ذو طابع فني يتعلق بصياغة او بناء القاعدة القانونية وهو ما اسماه جيني بعنصر الصياغة (2) ، ويرجع اساس كلا العنصرين الى السياسة القانونية المتبناة في مجتمع ما ، فالعنصر الموضوعي يتعلق بشؤون وحاجات واماني وتطلعات ذلك المجتمع ، ويستهدف العدالة كمثل اعلى لتنظيم ذلك على افضل الوجوه واكثرها ملائمة .
ويقوم العنصر الموضوعي على جملة معطيات تُعبر في مضمونها عن الحقائق الاجتماعية والسياسية والتاريخية والمُثل والقيم العليا الى تسود في مجتمع واحد معين ، ومن هذه المُعطيات يستمد المشرع مادته الاولية او الجوهر الذي يصوغ منه قانونه ، وهذا يعني ان العنصر الموضوعي يتصل بالملائمة وحسن التدبير .
اما الصياغة فتمثل الجانب الفني للسياسة القانونية التي تُعنى بوضع أنسب ادوات التقنية التشريعية لاحتواء المعطيات والحاجات والاهداف الاجتماعية ، فقد يكون من المناسب ان يضمن العنصر الموضوعي في اطار قاعدة قانونية جامدة او مرنة او معيار قانوني او مبدأ قانوني او أن يحيل المشرع الحكم الى قواعد العدالة او القانون الطبيعي، حسب مايمليه مبدأ العدالة او مبدأ أمن واستقرار المعاملات داخل المجتمع فضلا عن ما تمليه نظرة المشرع لمستقبل الحياة الاجتماعية وما يطرأ عليها من تغيرات محتومة بعد سن الشريع ونفاذه .
ومعطيات الحياة او حقائقها عند جيني ، اربعة انواع :
المعطيات الطبيعية الواقعية : وهي تلك الحقائق التي تتكون من من ظروف الواقع المحيطة بالجماعة ، وتشمل جميع الاحوال الطبيعية التي تحيط بالانسان وتلحق به كالتكوين الفسيولوجي ، والوسط الجغرافي والاحوال الادبية والخلقية والدينية والاقتصادية والسياسية في المجتمع ، وهذه الحقائق لاتخلق القواعد القانونية بذاتها ولكنها تحدد نطاقها ابتداءاً ، فتنظيم الزواج يُبنى على حقائق طبيعية كاختلاف التكوين الفسيولوجي والنفسي للرجل عن المرأة ، فضلا عن نظرة المجتمع وموقف الدين ، يقود الى التسليم باختلاف المركز القانوني بين الزوج والزوجة في هذا الارتباط .
المعطيات التاريخية : وتشمل ما تَكون من قواعد لتنظيم الحياة والسلوك في المجتمع ثبتت عبر الزمن مما اكسبها صلابة وقوة واحتراماً جعلت منها تراثا مكتسباً لا يُمكن اغفاله او التحلل منه كلياً في تكوين القانون، وهذه المعطيات هي اساس كل اصلاح وبناء قانوني جديد، فهي نتيجة الخبرة المكتسبة عبر الزمن مما يجعل لها حُجية مسلم بها ،ليست بالمطلقة ولا بالدائمة،لكنها حُجية نسبية لاتصد عن التطور وان تكن تـَعصم من الاندفاع او التهور .
والمعطيات التاريخية ، هي حقائق علمية في حقيقتها ومعناها ، فالتاريخ ليس سوى التجربة التي مرت بها الانسانية عبر الزمن ، وبذلك تكون قادرة على منح القانون اساساً راسخاً وقوة وهَيبة .
فعبر التاريخ اكتسب حق الملكية احتراماً خاصاً ، لم تستطع ان تنزع احترامه من النفوس حتى اقوى النظم الاشتراكية ، وهكذا نصت اغلب دساتير دول العالم على ان ( حق الملكية مقدس ) و ( لايجوز نزع الملكية الخاصة الا وفقاً للقانون وبموجب تعويض عادل ) (3)، وهكذا الامر بالنسبة لنظام الزواج الذي يخضع دائما لرقابة دينية او مدنية تسبغ عليه الصفة الشرعية ، ويُنص غالبا على انه رابطة مقدسة، فمثل هذه النصوص تجد سندها في التطور التاريخي الذي خرجت منه .
وعلى سبيل المثال كان الزواج في المجتمعات البدائية يتم عن طريق خطف النساء من الجماعات الاخرى ، وقد ادى هذا الى استقرار فكرة الزواج من الأجنبيات او على الاقل من النساء اللواتي لايتصلن بالرجال بقرابة من درجة معينة ، وهذا هو اصل فكرة المحارم ، ولاتزال بعض مظاهر نظام اختطاف النساء قائمة ليومنا هذا في العديد من المجتمعات الشرقية والغربية ، حيث يقوم الزوج بدور المختطف للزوجة ليلة الزفاف، لا شعورياً ، فيحملها بين ذراعيه ويذهب بها بعيداً عن المشاركين في حفلة الزفاف.
المعطيـات العقلـية : وتشمل القواعد التي يستخلصها العقل من المعطيات السابقة بعد صقلها وتهذيبها وتحويرها ، حيث يعمل القانون على ملائمة معطيات الواقع والطبيعة والتاريخ وموافقتها على ما يفرض من غاية للقانون .
وتسهم المعطيات العقلية في النصيب الاكبر في تكوين جوهر القواعد القانونية ، وما دام ان هذه المعطيات مبنية على العقل فانها تمثل الجوهر الاساسي للقانون الطبيعي ، اي قواعد السلوك التي يستخلصها العقل من طبيعة الانسان وحركة المجتمع ، الا ان المعطيات العقلية تُظهر فقط ما تبديه طبيعة الانسان حتما ولاتتجاوزها الى النزعات المثالية ، فالعقل يوحي بضرورة ان يكون الزواج ثابتا ومستقراً حتى تنشأ اسرة متماسكة ، الا ان عدم تعدد الزوجات لا يعتبر من المعطيات العقلية بل من المعطيات المثالية ، لانه لوسايرنا منطق العقل ، فأن غاية الزواج النهائية هي النسل ، وتعدد الزوجات يحقق هذه الغاية بطريقة اوسع .
وللمعطيات العقلية صفة علمية بالمعنى الواسع المعبر عن كل نشاط او جهد عقلي تفكيري يَنفذ الى جوهر الاشياء بوسائله المُسَلم بها الخاصة بالمعرفة دون الوسائل المتنازع في قيمتها ، فيتمكن من فرض قواعده فرضا جازماً ، وان امكن تصور انكارها والنزاع بشأنها ، من الناحية الواقعية .
المعطيات المثالية : وهذه المعطيات تعبر عن اتجاهات ونزعات مثالية تنحو بالنظام القانوني نحو السمو والتقدم المستمر نحو الكمال ولايقف معها القانون جامدا عن التطور والتقدم ، حتى لو كانت المعطيات الاخرى لاتؤيد هذا التطور ، اذا كان هذا التطور هو ما تقتضيه مصلحة الجماعة .
ومن ذلك ان العقل يقضي ويسايره القانون في ذلك ، انه لا مسؤولية بدون خطأ يثبته المضرور حتى يتمكن من المطالبة بالتعويض عن الضرر ، الا ان ضرورات الحياة المعاصرة والنتائج الظالمة المترتبة على هذه القاعدة خاصة في مجال العمل ، حدت بالنزعة المثالية الى التدخل وضمنت للعمال الحصول على تعويض عن الاصابات على اساس مبدأ جديد هو ، المسؤولية بدون خطأ ، عرف بمبدأ تحمل التبعة ، ومفاده ان من ترتب على نشاطه ضررا للغير يلزم بالتعويض ، وهكذا اُستبعد ركن تاريخي جوهري من اركان المسؤولية هو الخطأ ، خلافاً لمنطق العقل .
والمعطيات المثالية تتآتى من قوى غير واضحة هي الايمان والعاطفة والرحمة ، وهي تحدد بطريقة غامضة ولكن مؤكدة ، ما يوجد لدى الافراد والجماعات من معتقدات وقيم مشتركة مما يجعل لها صفة موضوعية كافية لتكملة نقص الحقائق العقلية والحد من شدتها وجفافها وطغيانها .
يتضح مما تقدم ، ان المعطيات العقلية هي الاهم من بين جميع المعطيات الداخلة في تكوين جوهر القانون ، ولكن مسايرة منطق العقل ، لاتعني دائما انه يعطي افضل الحلول .
وعلى النحو المتقدم فان القانون علم وفن ، فهو علم لانه يقوم على عدد من النظريات العلمية التي شيدت على اساس معطيات واقعية وعقلية وطبيعية ومثالية وتاريخية تعطي للقاعدة القانونية مداها ومعناها وتفسيرها بهدف كشف المراد منها ومن ثم تطبيقها تطبيقاً سليماً على الوقائع المتطابقة مع فرض تلك القاعدة ، فالقاعدة القانونية لا تُضمن في الغالب تعريفات او شروط للتطبيق ، فهي قاعدة عامة مجردة لا تغوص في التفاصيل عادة ، مما يعني وجوب الرجوع الى النظرية ذات العلاقة لبيان الاحكام التفصيلية وفك الغموض الذي قد يكتنف تلك القاعدة . ولا غنى للقاضي او رجل الادارة في حدود عمله عن الرجوع الى تلك النظريات لتطبيق النصوص القانونية تطبيقاً سليماً لتفادي الوقوع في الخطأ في تطبيق القانون او فهمه او تأويله .
ومن تلك النظريات نظرية الشخص المعنوي ونظرية الاوضاع الظاهرة ونظرية الظروف الطارئة ونظرية العقد ونظرية البطلان ونظرية السبب ونظرية الارادة الظاهرة والارادة الباطنة ونظرية التكييف ونظرية الغلو وغير ذلك من كبرى نظريات القانون المستقرة غير القابلة للحصر التي تبنى على اساس من معطيات الطبيعة والعقل والتاريخ والمنطق .
والقانون فن لان صياغة القاعدة من حيث الشكل والمضمون ما هي الا تعبير عن الجانب الفني للسياسة القانونية التي تُعنى بوضع أنسب ادوات التقنية التشريعية لاحتواء المعطيات والحاجات والاهداف الاجتماعية ، فقد يكون من المناسب ان يضمن العنصر الموضوعي في اطار قاعدة قانونية جامدة او مرنة او معيار قانوني او مبدأ قانوني او أن يحيل المشرع الحكم الى قواعد العدالة او القانون الطبيعي، حسب مايمليه مبدأ أمن واستقرار المعاملات داخل المجتمع او مبدأ العدالة فضلا عن ما تمليه نظرة المشرع لمستقبل الحياة الاجتماعية وما يطرأ عليها من تغيرات محتومة بعد سن الشريع ونفاذه . (4)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق