الأربعاء، 26 فبراير 2014

مصطلحات تعاريف مفاهيم لغوية



مصطلحات من أصول لغوية:
مصطلحا القول والكلام:
طبق ابن جني منهجه الذي أشار إليه في معالجة مصطلح (القول) على طريقة ما سماه فيما بعد بالاشتقاق الأكبر، أي استخراج معنى مشترك أصلي لجميع تقليبات المادة اللغوية، فـإن ( ق و ل) وجهات تراكيبها الست وهي: ق و ل، وق ل، و ل ق، ل ق و، ل و ق، مستعملة في اللغة ومعناها جميعاً "أين وجدت، وكيف وقعت، من تقدم بعض حروفها على بعض، وتأخره عنه، إنما هو للخفوف والحركة".
ثم أخذ ابن جني يفصل في تعريف كل تقليب على حدة. ثم اتبع ذلك بمعالجة الأصل (ك ل م)، ويرى أنها حيث تقلبت فمعناها الدلالة على القوة والشدة. والمستعمل منها أصول خمسة، وهي: ك ل م، ك م ل، ل ك م، م ك ل، م ل ك"(63).
وبعد معالجة تقليبات المادتين خلص ابن جني إلى دلالة المصطلحين الكلام والقول، "أما الكلام فكل لفظ مستقل بنفسه، مفيد لمعناه. وهو الذي يسميه النحويون الجمل".
"وأما القول فأصله أنه كل لفظ مذل به اللسان، تاماً كان أو ناقصاً، فالتام هو المفيد، أعني الجملة وما كان في معناها.. والناقص ما كان بضدّ ذلك.. فكل كلام قول، وليس كل قول كلاماً. هذا أصله..".
ولم يكتف ابن جني بذلك، بل أتبع كلامه بتوضيح مجالات استخدام كل من القول والكلام مصطلحين والفرق في استعمالاتهما ونجتزئ من كلامه الدلالات الآتية:
1-    "يوضع القول على الاعتقادات والآراء وذلك نحو قولك: فلان يقول بقول أبي حنيفة، ويذهب إلى قول مالك، ونحو ذلك، أي يعتقد ما كانا يريانه، ويقولان به، لا أنه يحكي لفظهما عينه، من غير تغيير لشيء من حروفه".
2-    "ومن أدل الدليل على الفرق بين الكلام والقول إجماع الناس على أنْ يقولوا: القرآن كلام الله، ولا يقال: القرآن قول الله"، وبين ابن جني السبب في استخدام المصطلح الأصلح للقرآن وهو "كلام الله" أن الكلام "لا يكون إلا أصواتاً تامة مفيدة"، وأن القول "قد يكون أصواتاً غير مفيدة، وآراء معتقدة"(64).
3-    وخلص ابن جني من بيان الفصل بين مصطلحي الكلام والقول إلى "أن الكلام إنما هو في لغة العرب عبارة عن الألفاظ القائمة برؤوسها، المستغنية عن غيرها، وهي التي يسميها أهل الصناعة الجمل، على اختلاف تراكيبها". و "أن القول عندها أوسع من الكلام تصرفاً، وأنه قد يقع على الجزء الواحد، وعلى الجملة، وعلى ما هو اعتقاد ورأي، لا لفظ وجرس"(65).
 ويقول السامرائي في التعليق على تناول ابن جني لمصطلح الكلام:
"وتعريفه للكلام موافق للنحاة المتأخرين عنه في تعريفهم له. جاء في (أسرار العربية): "أما الكلام فلا ينطلق إلا على المفيد خاصة" ويخلص السامرائي إلى ما يأتي: "فليس من خلاف في المدلول النحوي لهذا الاصطلاح".
وأما مصطلح القول: فيذكر السامرائي أن النحويين قد اعتمدوا تعريف ابن جني: "أما القول فهو من معنى الإسراع والخفة، ولذلك قيل لكل ما مذل به اللسان وأسرع إليه تاماً أو ناقصاً قول"(66).
مصطلح (لغة)
ذهب ابن جني في تعريفه لمصطلح لغة إلى أن أصله عربي من لغا بمعنى تكلم. وقد عرف المصطلح بقوله: "أما حدها فإنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم"(67)، وقد اشتمل التعريف على أربعة أمور.
1-        أن اللغة أصوات.
2-        أنها تعبير.
3-        أنها تصدر عن (قوم) – أي الناس-.
4-        وأنها تعبير عن حاجات الناس (أغراضهم)، وهذا يعبر عن اجتماعية    اللغة(68).
ثم ذكر ابن جني تصريف (لغة) فإن وزنها (فعلة) من لغوت أي تكلمت، وأصلها (لغوة)، وتصريفها كتصريف كرة، وقلة وثبة (كلها لاماتها واوات)، ولكنها صيغت من مقلوب الأصل، ومثل على ذلك بثبة التي هي من مقلوب ثاب يثوب.
وعلى الرغم من اعتراف ابن جني أن لغى يلغى بمعنى هذى، وكذا اللغو، كما في قوله تعالى: "وإذا مروا باللغو مروا كراماً": (الفرقان 72)، ونص على أن اللغو هنا: الباطل، فإن ابن جني احتج بالحديث الشريف: "من قال في الجمعة: صه فقد لغا، وذكر أن معناه "تكلم". وينقض محقق الخصائص هذا الذي ذهب إليه ابن جني لأن شرّاح الحديث فسروا "اللغو بالكلام بما لا ينبغي"، وأن نص الحديث في البخاري في أبواب الجمعة: "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت والإمام يخطب فقد لغوت"(69).
وتجدر الإشارة هنا إلى أن مصطلح لغة قد عرف على الأرجح بعد اتصال العرب بالحضارة اليونانية، فإن اليونانيين يطلقون على اللغة لفظ Logos = لوغوس وهي تعني الكلمة أو اللغة(70).
أما العرب فالمعلوم أنهم استخدموا لفظ "لسان" للدلالة على اللغة، وبذلك جاء النص القرآني، ونص الأحاديث النبوية الشريفة، وأقوال الصحابة، كما في قوله تعالى: "بلسان عربي مبين" (الشعراء 195)، وقول الرسول (ص): "فإنما أنزل القرآن عليّ بلسان عربي مبين"(71).
على أن مصطلح (لغة) شاع وذاع – فيما بعد-، وطغى استعمال اللفظ على مصطلح "لسان/ اللسان" لدى كل الدارسين، بعد القرن الثاني للهجرة، حتى صار مصطلح (لغة) لا يعني اختلاف الألسن بين الشعوب والأمم، بل استخدمه اللغويون العرب للدلالة على اختلاف اللهجات العربية. وها هو ذا ابن جني يضع عنواناً في خصائصه لاختلاف لهجات العرب، هو: "باب اختلاف اللغات وكلها حجة"(72).
مصطلح النحو:
وعرف ابن جني (النحو) بقوله: "هو انتحاء سمت كلام العرب، في تصرفه من إعراب وغيره، كالتثنية، والجمع، والتحقير، والتكسير، والإضافة، والنسب، والتركيب، وغير ذلك".
وحدد الغاية العملية من النحو، وهي: "ليلحق من ليس من أهل اللغة العربية بأهلها في الفصاحة، فينطق بها وإن لم يكن منهم. وإن شذّ بعضهم عنها رد به إليها".
وأما لفظ المصطلح (النحو) فهو "مصدر شائع، أي نحوت نحواً، كقولك: قصدت قصداً، ثم خص به انتحاء هذا القبيل من العلم". وبهذا دلل ابن جني على اختصاص النحو بعلم قواعد العربية. ثم أضاف أن لفظ "نحواً" قد استعملته العرب ظرفاً، وأصله المصدر، وكذا الأمر بالنسبة للمصادر التي استعملت مصطلحات للعلوم، نحو مصطلح (الفقه) الذي هو "في الأصل مصدر فقهت الشيء أي عرفته، ثم خص به علم الشريعة من التحليل والتحريم"(73).
ويرى بعض الدارسين المحدثين أن تعريف ابن جني "بهذا المعنى شامل علم لا يشمل النحو الاصطلاحي عند المتأخرين، بل هو أوسع منه بكثير"(74).
مصطلح الإعراب:
ولابن جني في الإعراب تعريف دقيق يدل على الغاية العملية من الإعراب، وهو قوله: "هو الإبانة عن المعاني بالألفاظ" وأتبع ذلك بمثالين هما في قوله مخاطباً قارئه: "ألا ترى أنك إذا سمعت: أكرم سعيدٌ أباه، وشكر سعيداً أبوه، علمت برفع أحدهما ونصب الآخر الفاعل من المفعول".
ويلاحظ أن ابن جني لم يشر إلى ما ذكره اللغويون من أن الإعراب هو التغيير في أواخر الكلمات، وإن كان ذلك متضمناً في تعقيبه على كلامه السابق: "ولو كان الكلام شرجاً واحداً لاستبهم أحدهما من صاحبه"(75).
ويبدو أن ابن جني أراد أن يدلل على أهمية الحركات الإعرابية في إيصال المعنى إلى ذهن السامع/ القارئ. ويرى أحد الدارسين المحدثين أن حد الإعراب لدى ابن جني "غير جامع ولا مانع" وأن "أبا الفتح لم يقصد إلى حده النحوي بصورة دقيقة، وإنما قصد إلى إعطاء معناه العام، وعقد الصلة بين النسب اللغوي لهذه الكلمة وما أطلقت عليه في النحو"(76).
واستطرد ابن جني في بيان أهمية الإعراب أكثر مما فعل في تناول مصطلحي اللغة والنحو فأشار إلى أن لفظ الإعراب "مصدر أعربت الشيء إذا أوضحت عنه، وفلان معرب عما في نفسه أي مبين له وموضح عنه".
وكذلك جعل ابن جني تسمية (العرب) أصلاً لمصطلح (الإعراب) في قوله: "وأصل هذا كله قولهم "العرب" لما يعزى إليها من الفصاحة والإعراب والبيان".
واستقرى ابن جني أيضاً المعنى نفسه في تسمية يوم الجمعة بالعروبة: "ومنه عندي عروبة والعروبة الجمعة، وذلك أن يوم الجمعة أظهر أمراً من بقية أيام الأسبوع لما فيه من التأهب لها، والتوجه إليها، وقوة الإشعار بها". وكأني به يعني "صلاة الجمعة".
ولم يغفل ابن جني الإشارة إلى دلالة مصطلح الإعراب على تغير حركات أواخر الكلمات في الجمل واختلافها وتنوعها، فذهب إلى أن من معاني الإعراب التغيير والاستحالة من حال إلى حال، إذ يقول: "ولما كانت معاني المُسَمَّيين مختلفة، كان الإعراب الدال عليها مختلفاً أيضاً، وكأنه من قولهم: عربت معدته، أي فسدت، كأنها استحالت من حال إلى حال، كاستحالة الإعراب من صورة إلى صورة".
ونلحظ في تناول ابن جني لمصطلح الإعراب مهارته ودقته في الاستقراء واستخدام الأدلة العقلية، والاحتجاج بالنصوص للتدليل على صحة ما يذهب إليه من استخراج معاني المصطلح.
مصطلح البناء:
يبدأ ابن جني بتعريف المصطلح: "وهو لزوم آخر الكلمة ضرباً واحداً من السكون أو الحركة، لا لشيء أحدث ذلك من العوامل".
ويلاحظ أن هذا التعريف متسق مع ما نقل عن أعلام البصريين كسيبويه، وما نقله عن شيوخه كأبي علي الفارسي الذي سبق أن ذكرنا تعريفه للإعراب بأنه "تغير أواخر الكلم واختلافها باختلاف العوامل، والبناء خلاف ذلك"(77).
وها هنا يعكس ابن جني تعريف الإعراب بما يلائم تعريف البناء. ثم يبين ابن جني أن الكلمة / المصطلح مستعار من لفظ البناء الحقيقي، فيقول: "وكأنهم إنما سموه بناءً لأنه لمّا لزم ضرباً واحداً فلم يتغير تغير الإعراب سمي بناءً، من حيث كان البناء لازماً موضعه، لا يزول من مكان إلى غيره، وليس كذلك الآلات المنقولة المبتذلة كالخيمة والمظلة.." (78).
الحقيقة والمجاز:
وهما مصطلحان عرفا لدى البلاغيين، لكن ابن جني عقد لهما بابين في الخصائص (باب في فرق بين الحقيقة والمجاز) و (باب في أن المجاز إذا كثر لحق بالحقيقة).
عرف ابن جني الحقيقة بقوله: "ما أقر استعماله على أصل وضعه في اللغة". وأما المجاز الذي هو العدول في الاستعمال عن هذه الأصول إلى معان جديدة، فإن ابن جني أردف تعريفه للحقيقة بقوله في تعريف المجاز: "ما كان بضدّ ذلك"(79).
وتجدر الإشارة إلى أن أحمد بن فارس الرازي عرف الحقيقة بأنها: "الكلام الموضوع موضعه الذي ليس باستعارة ولا تمثيل ولا تقديم ولا تأخير.. وهذا أكثر الكلام"(80).
وعلى الرغم من أن ابن جني لم يضع تعريفاً شافياً لكل من الحقيقة والمجاز، إلا أنه تطرق إلى الناحية العملية بذكر الفوائد التي تجنيها اللغة من الاستخدام المجازي، وقد حددها في ثلاث: الاتساع، والتوكيد، والتشبيه، التي لا بد من اجتماعها في كل استخدام مجازي. وطبق ابن جني هذه الفوائد الثلاث على وصف النبي صلى الله عليه وسلم جواداً بأنه "هو بحر": "فالمعاني الثلاثة موجودة فيه، أما الاتساع فلأنه زاد في أسماء الفرس التي هي: فرس وطرف وجواد ونحوها: البحر". وأما التشبيه "فلأَنَّ جريه يجري في الكثرة مجرى مائه". وأما التوكيد "فلأنه شبه العرض بالجوهر، وهو أثبت في النفوس منه، والشبه في العرض منتفية عنه..." (81).
مصطلح التجنيس:
والتجنيس عند اللغويين "أن يتقارب اللفظان، ويختلف أو يتقارب المعنيان"(82). وأما البلاغيون فقد جعلوا التجنيس أنواعاً من أهمها:
أ‌-        التجنيس/ أو الجناس التام، وهو أن تكون الكلمتان متوافقتين في حروفهما وحركاتهما.
ب- والتجنيس/ الجناس الناقص، وهو أن يختلفا في الهيئة دون الصورة، كقولك البرد يمنع البرد.
ج- والتجنيس المذيل، وهو أن يختلفا بزيادة حرف كقولك: مالي كمالي، وجدي جهدي(83).
وقد ذكر ابن جني المصطلح في (باب في تداخل الأصول الثلاثية والرباعية والخماسية)، وصنف الألفاظ من حيث تداخل أصول أبنيتها قسمين:
أحدهما: قسم تتقارب فيه أصول الثلاثي والرباعي والمعنى واحد، ومثل على ذلك بلفظين هما: رخو، ورخود، فهما "شديدا التداخل لفظاً وكذلك هما معنىً إلا أن تركيب رخو من (ر خ و)، وتركيب رخود من (ر خ د) والواو زائدة." وأما من حيث المعنى، فيقول في تقاربهما: "أفلا ترى إلى ازدحام اللفظين مع تماس المعنيين، وذلك أن الرخو الضعيف، والرخود المتثني، والتثني عائد إلى معنى الضعف".
والقسم الآخر: ما يتقارب فيه اللفظان والمعنى مختلف، ومثل عليه بقول القطامي الشاعر:
مستحقبين فؤاداً ما له فاد
ويذهب ابن جني إلى أن الشاعر يرى "أو يرى أنه قد جنس وليس في الحقيقة تجنيساً"، وفسر ذلك بأن (فؤاداً) من (ف أ د)، وأما (فاد) فهو من (ف د ى)، "ولكنهما لما تقاربا دنوا من التجنيس"(84).
ونلحظ من خلال الأمثلة التي ساقها ابن جني أن غاية التجنيس غاية جمالية، - على ما يعرف في البلاغة-، وأن ما ذكره في الباب لا يعدو أن يكون تداخلاً بين أصول الألفاظ على اختلاف أبنيتها.
مصطلح الممطول:
وذكر ابن جني هذا المصطلح في (باب في اقتضاء الموضع لك لفظاً هو معك إلا أنه ليس بصاحبك)، ومثل عليه بقوله: "لا خيراً من زيد فيها". وفسر محقق الخصائص هذا المصطلح بقوله: "هو ما يعرف بالشبيه بالمضاف عند المتأخرين"(85).
ومن الجدير بالذكر أن الشبيه بالمضاف "هو ما اتصل به شيء من تمام معناه، معمولاً له، نحو: يا ضاحكاً وجهه، و "يا سامعاً دعاء المظلوم"(86).
مصطلح حرف اللين المجهول:
وجعل له ابن جني باباً في الخصائص وعرفه بأنه "مدة الإنكار".
ويستخدم في اللغة في سؤال من أخبر بخبر، فأراد أن يستوثق منه، نحو: إذا قال له قائل: رأيت بكراً، فيسأله" أبكرنيه، وكذا إذا قال: جاءني محمد، فالسؤال هو: أمحمدنيه، فإذا كان القول: مررت على قاسم، سأله: أقاسمنيه.
وقد يكون سؤال السائل إنكاراً أو استفهاماً، والغالب أن يكون إنكاراً تحقيقاً لتسمية ابن جني الياء (المدة) بمدة الإنكار.
وبين ابن جني عناصر الجملة التي يستخدم حرف اللين المجهول (أي مدة الإنكار، وهي:
أ‌-               همزة الاستفهام / الإنكار، ب- الاسم منوناً، ج- مدة الإنكار (الياء)، د- الهاء.
وكذلك ذكر ابن جني أن نون التنوين تكسر لالتقاء ساكنين في قوله: "وذلك أنك ألحقت مدة الإنكار، وهي لا محالة ساكنة، فوافقت التنوين ساكناً، فكسر لالتقاء ساكنين، فوجب أن تكون المدة ياءً لتتبع الكسرة".
ثم فسر ورود الياء لا غيرها من حروف المد، إذ "لا بد أن توجد في اللفظ بعد كسرة التنوين ياء، لأنها إن كانت في الأصل ياء فقد كفينا النظر في أمرها، وإن كانت ألفاً أو واواً فالكسرة قبلها تقلبها إلى الياء البتة".
وتساءل ابن جني عن ورود غير الياء من حروف المد، وهل اقتصر في الإنكار على الياء فحسب؟
فأجاب بأنه "لم تظهر في شيء من الإنكار على صورة مخصوصة فيقطع بها عليها دون أختيها، وإنما تأتي تابعة لما قبلها، ألا تراك تقول في: قام عمر: أعمروه، وفي رأيت أحمد: أأحمداه، وفي مررت بالرجل: آلرجليه".
ويلاحظ أن الياء استخدمت في الأمثلة الأولى بعد تنوين، وفي الأمثلة الثانية في حالة الجر فحسب، بينما وردت الواو والألف في حالتي الرفع والنصب، ذلك حين يكون الاسم غير منون، مثل الممنوع من الصرف كعمر وأحمد(87).
ولحظ ابن جني الشبه بين مدة الإنكار ومدة الندبة، ولئلا يقع الخلط بينهما نبه على اختلافهما، ذلك أن مدة الندبة كما في: وازيداه :"ليست مدة مجهولة مدبرة بما قبلها، ألا تراها تفتح ما قبلها أبداً، ما لم تحدث هناك لبساً" فإن العرب تقول في الندبة، نحو: وازيداه، ولم يقولوا وازيدوه، رغم أن الواو مضمومة في وازيد.
ثم أضاف ابن جني مبيناً أحوال الألفين من موضعين: أحدهما أن مد الإنكار مضاه للندبة، والثاني أن الغرض من الموضعين جميعاً إنما هو مطل الصوت(88).
خلع الأدلة:
وهو أحد أبواب الخصائص ضمنه ابن جني بعض نظراته اللغوية، وأراد بالأدلة "أعلام المعاني في العربية"، فإن الهمزة "دليل الاستفهام، و (إن) دليل الشرط" وأما المعاني فيراد بها "المعاني التي تحدث في الكلام من خبر واستخبار ونحو ذلك". أي أن ابن جني قصد إلى معاني الحروف، الأدوات لا معاني الأجناس.
ويرى محقق الخصائص أن ما أراده ابن جني من تسميته (خلع الأدلة) هو "تجريد الحروف والأدوات من المعاني المعروفة والمتبادرة فيها، وإرادة معان أخر لها، أو تجريدها من بعض معانيها"(89).
ومن الأمثلة المشهورة في اللغة خلع/ أو تجريد (ال) عن التعريف في لفظ الجلالة.
ونقل ابن جني ما روي عن يونس بن حبيب أن العرب تقول: ضرب مَنٌ مَنَاً أي: إنسانٌ إنساناً، أو رجلٌ رجلاً، ثم اتبع المثال بقوله" "أفلا تراه كيف جرد (مَنْ) من الاستفهام، ولذلك أعربها"(90).
فك الصيغ:
أشار ابن جني في (باب في فك الصيغ) إلى عدم تنبه اللغويين له على الرغم من أنه "موضع من العربية لطيف، ومغفول عنه، وغير مأبوه له"(91)، فقد لحظ أن بعض صيغ الكلام يجري عليها تغيير في حالة تغير تصريفها، إذ يحذف منها حرف أو أكثر" إما ضرورة أو إيثاراً"، وسواء أكان المحذوف من الحروف الأصول أم كان من الزوائد، ذلك أن الأصل في التغيير أن يجري على "مثلهم" – أي العرب، فإذا تم تغيير نافر وخالف صيغ كلمهم فإن تغييراً آخر لا بد أن يحدث ليعيد الكلمة إلى مثلهم. وهذا هو الذي أراده ابن جني بتسميته "فك الصيغ". ومن الأمثلة الواضحة على ذلك تصغير أو تكسير (منطلق)، إذا لا تستقيم إلا بفك صيغتها، ويرى ابن جني أنه لا بد من حذف نونه، فتصبح مطلق، ومثاله: مفعل، وهذا وزن ليس مستعملاً في كلام العرب، ومن ثم لا بد من نقله إلى أمثلتهم فيصير "مطلق" وتصغيره: مطيلق، وتكسيره: مطالق.
ويلاحظ أن ما جرى على الألفاظ التي مثل بها ابن جني في موضوع (فك الصيغ) أمران:
أ- حذف الزائد/ الزوائد و ب- موافقة بعض أمثلة العرب وصيغها أياً كانت الصيغة.
ولذلك نراه يقرر ما يأتي: "لا عليك على أي صورة بقي بعد حذف زائده"(92).
تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني:
وهذا باب في الخصائص ذكر فيه ابن جني بعض نظراته اللغوية التي استحسنها الدارسون/ اللغويون بعده قديماً وحديثاً، فرددوا ما قاله، وعدّوه رائداً فيما أورده. وقد ذكر ابن جني في هذا الباب ملحوظات لغوية استنبطها مما ورد في اللغة من ألفاظ تتقارب ألفاظها ومعانيها، ويمكن إجمال ما ذكره فيما يأتي:
1-        اقتراب الأصلين الثلاثيين نحو: رخو ورخود، وأصلهما" رخو، و رخد، وهناك اتفاق في المعنى.
2-        اقتراب أصلين أحدهما ثلاثي والآخر رباعي، نحو: دمث، ودمثر. وقد ذكر ذلك في موضوع (التجنيس) (93).
3-        التقديم والتأخير، وهذا الذي أطلق عليه ابن جني مصطلح (الاشتقاق الأكبر) (94).
4-    تقارب الحروف لتقارب المعاني، وهذا هو الأقرب لعنوان الباب، ومثل له ابن جني بقوله تعالى: "ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا" (مريم 83). وجعل ابن جني أز وهز بمعنى واحد، إلا أنه جعل الأز أقوى في المعنى من الهز لقوة الهمزة(95).
إمساس الألفاظ أشباه المعاني:
وهذا باب يعقب الباب السابق ذكر فيه ابن جني ملحوظات لغوية أخرى صوتية وصرفية، ويعترف في بداية الباب بأن الخليل بن أحمد هو الذي ابتدع بعض هذه النظرات اللغوية كما يتضح هذا في مثاله المشهور عن العرب: "كأنهم توهموا في صوت الجندب استطالة ومداً فقالوا: صرّ، وتوهموا في صوت البازي تقطيعاً، فقالوا: صرصر".
ونقل ابن جني عن سيبويه أن المصادر التي جاءت على وزن (فعلان) تأتي للاضطراب والحركة نحو: النقزان والغليان والغثيان(96).
وأضاف ابن جني – كعادته كلما ذكر شيئاً عن شيوخه السابقين – ملحوظات أو نظرات لغوية جديدة نجملها بما يأتي:
1-        أن المصادر الرباعية المضعفة تأتي للتكرير، نحو: الزعزعة، والقلقلة، والصلصلة.
2-        أن (الفعلى) في المصادر والصفات إنما تأتي للسرعة، نحو: البشكى والجمزى.
3-    أن تكرير العين في المثال دليل على تكرير الفعل، نحو: كسّر، وقطّع، وفتّح، وغلّق. وقد أطلق ابن جني على هذه الأمثلة العبارة المشهورة: "قوة اللفظ لقوة المعنى"(97).
مصطلح تدريج اللغة:
وفي الباب الخاص بهذا المصطلح يقول ابن جني في تقديمه وتعريفه: "وذلك أن يشبه شيء شيئاً من موضع، فيمضي حكمه على حكم الأول، ثم يرقى منه إلى غيره". ومن الأمثلة التي ذكرها قولهم: "جالس الحسن أو ابن سيرين"، وفي تفسير المثال يقول: "ولو جالسهما جميعاً لكان مصيباً مطيعاً لا مخالفاً، وإن كانت (أو) إنما هي في أصل وضعها لأحد الشيئين، وإنما جاز ذلك في هذا الموضع لا لشيء رجع إلى نفس (أو)، بل لقرينة انضمت من جهة المعنى إلى (أو)، وذلك لأنه قد عرف أنه إنما رغب في مجالسة الحسن لما لمجالسته في ذلك من الحظ، وهذه الحال موجودة في مجالسة ابن سيرين أيضاً، وكأنه قال: جالس هذا الضرب من الناس"(98).
وتجدر الإشارة إلى أن سيبويه قد ذكر ما سماه ابن جني هنا باب "تدريج اللغة" في (باب أو في غير الاستفهام)، ومثل للباب بقوله: "تقول: جالس عمراً أو خالداً أو بشراً، كأنك قلت: جالس أحد هؤلاء ولم ترد إنساناً بعينه، ففي هذا دليل على أن كلهم أهل أن يجالس، كأنك قلت: جالس هذا الضرب من الناس".
ويلاحظ أن العبارة الأخيرة قد اقتبسها ابن جني في خصائصه رغم اختلاف المثال، وأضاف سيبويه مثالاً وهو قوله تعالى: "ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً" (آية 24 سورة الإنسان)، وقدم للمثال بقوله: "ونظير ذلك قوله عز وجل (الآية)" ثم عقب عليها بقوله: "أي لا تطع أحداً من هؤلاء"(99).
وأما ابن جني، فقد ذكر الآية بعد مثاله الآنف الذكر وقدم لها بقوله: "وعلى ذلك جرى النهي في هذا الطرز من القول في قول الله سبحانه: "ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً" وكأنه – والله أعلم - قال: لا تطع هذا الضرب من الناس".
وزاد ابن جني في توضيح معنى "التدريج" بأن أضاف من الأمثلة ما استخدمت فيها (أو) في موضع الواو، كما في قول الشاعر أبي ذؤيب الهذلي.
وكان سيان ألا يسرحوا نعماً                       أو يسرحوه بها، وأغبرت السوح
ويرى ابن جني أن "سواء وسيان لا يستعمل إلا بالواو"، وأن الأمثلة التي ذكرت يصلح فيها الواو، ولكن (أو) فيها قد جرت مجرى الواو، ولذلك حصل لها هذا (التدريج) في الاستعمال، فأجريت مجرى الواو"(100).
وهناك ظواهر لغوية أخرى تحت عنوان "تدريج اللغة" ذكرها ابن جني، ومنها: قلب الواو من صبوان وصبوة إلى ياء في قولهم: صبيان وصبية "لأنه من صبوت، لانكسار الصاد قبلها، وضعف الباء أن تعتدّ حاجزاً لسكونها"(101).
وهناك أمثلة كثيرة ذكرها ابن جني في هذا الباب، أغلبها مما جرى استعمال الياء في موضع الواو استحساناً واستخفافاً، ولذلك نرى ابن جني يصرح بأن "جماع هذا الباب غلبة الياء على الواو لخفتها.." (102).
تركيب اللغات:
وهذا عنوان باب في الخصائص، إذ هو ليس مصطلحاً لغوياً، وإنما عنى به ابن جني أن العربي قد يجتمع في كلامه أكثر من لهجة، وأخذ ابن جني على اللغويين الذين وصفهم بأنهم "ضعف نظرهم، وخفت إلى تلقي ظاهر هذه اللغة أفهامهم، أن جمعوا أشياء على وجه الشذوذ عندهم، وادعوا أنها موضوعة في أصل اللغة على ما سمعوه بأخرة من أصحابها"، ومثل لما عد شاذاً "ما جاء على فَعِلَ يَفْعُلُ، نحو: نَعِمَ يَنْعُم".
وسمى ابن جني مجيء هذا في كلام العرب بتركيب اللغات وتداخلها، وفسر هذه الظاهرة بأن يتلاقى "أصحاب اللغتين فسمع هذا لغة هذا، وهذا لغة هذا، فأخذ كل واحد منهما من صاحبه ما ضمه إلى لغته فتركبت هناك لغة ثالثة". ومن الأمثلة التي عالجها ابن جني في هذا الباب مما اجتمعت فيه لغتان نحو: "قليت الرجل وقليته، فمن قال: قليته فإنه يقول: أقليه، ومن قال: قليته قال: أقلاه"(103).
2- مصطلحات أصول الفقه وعلم الكلام:
ذكر ابن جني في مقدمة الخصائص أنه تأثر بمناهج أصول الفقه وعلم الكلام، وأن أحداً من النحويين لم يقم بهذا العمل الجليل قبله، فقال: "وذلك أنا لم نر أحداً من علماء البلدين (أي البصرة والكوفة) تعرض لعمل أصول النحو على مذهب أصول الكلام والفقه"(104).
ويعترف ابن جني صراحة في موضع آخر من الخصائص أن اللغويين قد احتذوا حذو الفقهاء في استخراج العلل والأقيسة، وذكر على وجه الخصوص محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة، المتوفى سنة 189هـ(105)، الذي كانت كتبه نبراساً اهتدى بهديها أهل النحو، إذ يقول: "وكذلك كتب محمد بن الحسن – رحمه الله – ينتزع أصحابنا منها العلل لأنهم يجدونها منثورة في أثناء كلامه، فيجمع بعضها إلى بعض بالملاحظة والرفق"(106).
ولو استعرضنا أبواب الخصائص لرأينا عدداً وافراً من الأبواب مستعاراً من أبواب الفقه ومصطلحاته، ويعدُّ ابن جني من أوائل النحاة الذين استخدموا المصطلحات الفقهية في الدرس اللغوي، وقد وصف ابن جني عملهم هذا بأنهم برعوا في موضوع العلة النحوية حتى فاقوا في عللهم علل المتفقهين رغم أنهم انتهجوا مناهجهم(107). ويظهر أن ابن جني يعرض بما ذهب إليه، مما توصل إليه هو نفسه من منزلة عالية في تعليل الظواهر اللغوية – نحوية وصرفية مما جعله مقدماً على كل اللغويين في زمنه – وحتى قبل زمنه-.
يضاف إلى هذا اعتراف من جاء بعده واحتذى حذوه كأبي البركات ابن الأنباري (ت 577هـ)، والسيوطي (ت 911هـ) بفضل ابن جني وتقدمه في موضوع علم أصول النحو موضوعاً ومصطلحات.
مصطلح الدور:
وهو من مصطلحات الفقهاء والمتكلمين. ويبدو أن ابن جني قد استخدم هذا المصطلح بمفهومين يتفق أحدهما مع مفهوم المتكلمين والصوفيين، إذ إن هذا المفهوم يعني "وجود حكم في كل طرف من الطرفين لعلة واحدة في كل منهما، أي أن الشيء يأخذ حكماً بعلة في الشيء الثاني، ثم يأتي الطرف الثاني فيأخذ حكماً بعلة موصوفة في الطرف الأول"(108).
ويمثل ابن جني في (باب دور الاعتلال) على هذا المفهوم للدور بما يعزوه إلى محمد بن يزيد المبرد (ت 285هـ) من "وجوب إسكان اللام في نحو: ضربن، وضربت إلى أنه لحركة ما بعده من الضمير"، ثم ذهب كذلك إلى سكون اللام "لسكون ما قبله"، ويذهب المبرد إلى أن تحريك ما قبل اللازم وما بعدها إنما يجيء لسكون اللام. ويخلص ابن جني إلى تفسير هذا المثال إلى ما يأتي: "فتارة اعتل لهذا بهذا، ثم دار تارة أخرى فاعتل لهذا بهذا. وفي ظاهر ذلك اعتراف بأن كل واحد منهما ليست له حال مستحقة تخصه في نفسه، وإنما استقر على ما استقر عليه لأمر راجع إلى صاحبه". وعلى الرغم من هذا فقد وصف ابن جني ما ذهب إليه المبرد بأنه "شنيع الظاهر"(109).
ثم استخدم ابن جني مصطلح الدور بمفهوم يتفق مع مفهوم الفقهاء، وذلك في قوله في باب آخر هو (باب في الدور والوقوف منه على أوّل رتبة). "هذا موضع كان أبو حنيفة – رحمه الله – يراه ويأخذ به، وذلك أن تؤدي الصنعة إلى حكم ما، مثله مما يقتضي التغيير، فإن أنت غيرت صرت أيضاً إلى مراجعة مثل ما منه هربت، فإذا حصلت على هذا وجب أن تقيم على أوّل رتبة ولا تتكلف عناء ولا مشقة".
ومن أمثلة ابن جني على هذا المفهوم للدور "كأن تبني من (قويت) مثل (رسالة) فتقول على التذكير: قواءة، وعلى التأنيث قواوة، وأما في جمعها "فيلزمك أن تقول حينئذ:" قواو، فتجمع بين واوين مكتنفتي ألف التكسير، ولا حاجز بين الأخيرة وبين الطرف"، وأما وزن (قواوة) فهو (فعالة) من القوة، فإن الأصل فيها بالهمز: قواء، "ثم يلزمك ثانياً أن تبدل من هذه الهمزة الواو"(110).
باب في تخصيص العلل:
وهذا باب آخر استعاره ابن جني "في العربية من أصول الفقه"، ويذهب فيه إلى أن محصول ما يذهب إليه اللغويون "ومتصرف أقوالهم مبني على جواز تخصيص العلل".
ومعنى تخصيص العلل في الفقه "أن يختلف الحكم مع وجود العلة. ومن أمثلة هذا في الفقه أن يعلل الرّبا بالطعم" نحو: بيع الرطب بالتمر، والعنب بالزبيب، ففيها الطعم. ويرى الفقهاء أن "التعارض فيها مع جهل التماثل ليس بحرام في مقدار معين مبين في الفروع. فقد وجدت العلة وتخلف الحكم. ويختلف الفقهاء في هذا، فمنهم من يراه قدحاً في العلة، ويسميه نقضاً، ومنهم من لا يراه نقضاً، ويعود به على العلة بالتخصيص"(111).
ويربط ابن جني بين علل اللغه- نحوها وصرفها – وعلل الفقه فيرى "أنها أو أكثرها إنما يجري مجرى التخفيف"، ويرى أنه "لو تكلف متكلف نقضها لكان ذلك ممكناً – وإن كان على غير قياس – ومستثقلاً". ثم يخاطب قارئه وهو يضرب له الأمثلة – "ألا تراك لو تكلفت تصحيح فاء ميزان وميعاد لقدرت على ذلك فقلت: موزان، وموعاد"، وهذا ينطبق على جل الأمثلة التي ذكرها، وهي أمثلة تحوي ألفاظاً تتبادل فيها من حروف العلة الواو والياء. ويعترف ابن جني أن بعض أمثلته تخالف القياس، وعلى الرغم من ذلك فإن القارئ يكون "مقتدراً على النطق بذلك، وإن نفى القياس تلك الحال" ولكن هذا الذي يجري في اللغة لا يجري في غيره خاصة علل المتكلمين "لأنها لا قدرة لها على غيرها، ألا ترى أن اجتماع السواد والبياض في محل واحد ممتنع لا مستكره، وكون الجسم متحركاً ساكناً في حال واحد فاسد، لا طريق إلى ظهوره، ولا إلى تصوره" ويخلص ابن جني إلى إقرار حقيقة مؤداها كما يقول: "فقد ثبت تأخر علل النحويين عن علل المتكلمين وإن تقدمت علل المتفقهين"(112).
العلة الموجبة والعلة المجوزة:
ويعقد ابن جني باباً للفرق بين العلة الموجبة والعلة المجوزة، وقدم لهذا الباب بأن أكثر العلل مبناها على الإيجاب نحو: نصب الفضلة وما شابهها، ورفع كل من المبتدأ والخبر والفاعل، وجر المضاف إليه.
وأما العلة المجوزة وهو "في الحقيقة سبب يجوز ولا يوجب" نحو "قلب واو وقتت همزة أَقتت"، ويرى ابن جني أن علة ذلك أن الواو انضمت ضماً لازماً، وأنت مع ذلك تجيز ظهورها واواً غير مبدلة، فتقول: وقتت" ويضيف ابن جني "أن الجواز معنى تعقله النفس، كما أن الوجوب كذلك، فكما أن هنا علة للوجوب فكذلك هنا علة للجواز"(113).
ويلاحظ أن ابن جني يفرق بين العلة والسبب، ويسمي الأولى "العلة الموجبة" والثاني "العلة المجوزة".
مصطلح إدراج العلة واختصارها:
وهو باب قصير مختصر (في صفحتين من الخصائص)، ومعنى إدراج العلة:" طيها وترك بسطها والإسراع في إيرادها بحذف بعض مقوماتها(114).
ومثل ابن جني على الإدراج ببيان أنه لو سأل سائل عن قولهم: "آسيت الرجل، فأنا أواسيه، وآخيته فأنا أواخيه" ما أصله، وما علته في التغيير، فإن الجواب أن الأصل أؤاسيه وأؤاخيه، وأما علته في التغيير: "اجتمعت الهمزتان فقلبت الثانية واواً لانضمام ما قبلها".
ويرى ابن جني أن في هذا إدراجاً وذلك من وجهين: أحدهما أنك لم تستوف ذكر الأصل، والآخر أنك لم تتقص شرح العلة". ثم يبدأ ابن جني باستيفاء أصل الكلمتين، واستقصاء علة تغيير الهمزة واواً، فيقول. "أصله أؤاسوُك لأنه أفاعلك من الأسوة، فقلبت الواو ياءً لوقوعها طرفاً بعد الكسرة، وكذلك أواخيك أصله: أؤاخوُك لأنه من الأخوة، فانقلبت اللام لما ذكرنا، كما تنقلب في أعطى واستقصى.
وأما تقصي علة تغيير الهمزة بقلبها واواً فالقول فيه أنه اجتمع في كلمة واحدة همزتان غير عينين، الأولى مضمومة والثانية مفتوحة، وهي حشو غير طرف، فاستثقل ذلك، فقلبت الثانية على حركة ما قبلها – وهي الضمة –            واواً"(115).
مصطلح الاستحسان:
الاستحسان مصطلح فقهي يستخدم في أصول الفقه، وهو أحد الأدلة الفقهية عند الحنفية. والاستحسان في اللغة "هو عد الشيء واعتقاده حسناً(116). وفي الاصطلاح: "العدول بالمسألة عن حكم نظائرها إلى حكم آخر لوجه أقوى يقتضي هذا العدول"، ويرى الخوارزمي أنه "قياس لكنه خفي غير جلي"(117).
وفي تعريفات الجرجاني أن الاستحسان "اسم لدليل من الأدلة الأربعة يعارض القياس الجلي، ويعمل به إذا كان أقوى منه"، ويخلص الجرجاني إلى أن الاستحسان هو "ترك القياس والأخذ بما هو أرفق للناس"(118).
لم يعرف ابن جني الاستحسان في اللغة تعريفاً صريحاً ومباشراً، بل بدأ باب الاستحسان بأن ذكر "أن علته ضعيفة غير مستحكمة"، غير أنه بين الفائدة العملية منه وهو "أن فيه ضرباً من الاتساع والتصرف"(119).
واستثمر ابن جني مصطلح الاستحسان لتعليل ظواهر لغوية يتعلق أكثرها بقضيتي الإعلال والإبدال، وذلك عن طريق تطبيق فكرتين تتعلقان بأصول اللغة – مثلما تتعلقان بأصول الفقه – أولاهما: ذكر العلة، وإثبات أنها أمر لم يغفل عنه النحويون، وإن لم يكن أكثرهم قد أحاط بكل أبعادها ومراميها.
والثانية هي القياس الذي برع فيه ابن جني وشيخه الفارسي اللذان تأثرا بمناهج المدرسة البصرية في اللغة.
والاستحسان أنواع منها:
1-    ترك الأخف إلى الأثقل، نحو: ألفاظ منها الفتوى والتقوى والشروى، ذلك أن هذه الألفاظ بوزن "فعلى" ويأتي هذا الوزن في العربية في الأسماء والصفات. وأصل صيغة هذا الوزن أن يكون بالياء لا بالواو، ولكن العرب قلبوا الياء واواً "من غير استحكام علة أكثر من أنهم أرادوا الفرق بين الاسم والصفة".
2-        ومن الاستحسان إلحاق نون التوكيد اسم الفاعل تشبيهاً له بالفعل المضارع كقول الراجز.
أريت إن جئت به أملودا      مرجلاً ويلبس البرودا
أقائلن أحضروا الشهودا
والشاهد فيه (أقائلن)، إذ ألحقت نون التوكيد اسم الفاعل" لا عن قوة علة ولا استمرار عادة"، فهو إذن من الاستحسان.
3-        قلب الواو ياءً إذا وقع ساكن بين الكسرة والواو، نحو صبية وقنية، والأصل فيهما: صبوت، وقنوت(120).
مصطلح ترافع الأحكام:
وهو عنوان باب وصف به اختلاف تصريف بعض الألفاظ، ونقل ابن جني أمثلة من كتاب سيبويه، ومنها قوله: "مذهب العرب في تكسير ما كان من (فعل) على أفعال، نحو: علم وأعلام، وقدم وأقدام". ثم نقل عنه أن ما "كان على (فعلة) كسروه على (أفعل)، نحو: أكمة وآكم..." ويعقب ابن جني على كلام سيبويه بقوله: "إلى هنا انتهى كلامه إلا أنه أرسله ولم يعلله"(121).
ويظهر أن ابن جني رأى أن يقدم تعليلاً لما نقله عن سيبويه، فقال: "والقول فيه عندي أن حركة العين قد عاقبت في بعض المواضع تاء التأنيث، وذلك في الأدواء، نحو قولهم: رمث رمثاً، وحبط حبطاً، وحبج حبجاً، فإذا ألحقوا التاء أسكنوا العين فقالوا: حقل حقلة، ومغل مغلة، فقد ترى إلى معاقبة حركة العين تاء التأنيث".
وهذا التعاقب الذي أشار إليه ابن جني بين التاء وحركة العين جعلهما تجريان" لذلك مجرى الضدين المتعاقبين، فلما اجتمعا في (فعلة) ترافعا في أحكامهما".
ويقصد بذلك ابن جني ما قاله في تعليقه على الأمثلة السابقة: "فأسقطت التاء حكم الحركة، وأسقطت الحركة حكم التاء، فآل الأمر بالمثال إلى أن صار كأنه (فعل)، و(فعل) باب تكسيره (أفعل)".
والغريب فيما قدمه ابن جني لهذا الباب في زعمه أن "هذا موضع من العربية لطيف، لم أر لأحد من أصحابنا فيه رسماً، ولا نقلوا إلينا فيه ذكراً"، ثم ختم الباب بقوله: "وهذا حديث من هذه الصناعة غريب المأخذ، لطيف المضطرب، فتأمله فإنَّه مجد عليك، مقو لنظرك"(122).
وعلى الرغم من هذا الزعم فإنه مثل للباب بما ذكره سيبويه الذي سمى الباب بـ :"باب ما كان على حرفين وليس فيه علامة التأنيث"(123)، ولكنه لم يقم بتعليل الأمثلة كالذي فعله ابن جني. ومن هنا نرى أن ابن جني قد وضع مصطلحاً لمثل هذه الظواهر اللغوية، وهو "ترافع الأحكام". ويرى محقق الخصائص أنه أراد "أنه قد يجتمع في الكلمة أمران، يقضي كل منهما إذا انفرد بحكم في اللغة، تكون عليه الكلمة، فيكون ذلك داعياً إلى إلغاء تأثيرهما، فكأن هذا رفع حكم هذا، وهذا رفع حكم هذا وأبطله".
ثم أردف محقق الخصائص مبيناً أن ما ذهب إليه ابن جني يقرب منه "قول الأصوليين وأرباب الاستدلال: إن الأمرين إذا تعارضا تساقطا"(124).
مصطلح المنزلة بين المنزلتين:
وهو من مصطلحات المعتزلة، وقد لحظ الدارسون أن ابن جني "كان معتزلياً تتردد آراؤه في الاعتزال في كتبه، وتطبع ببحثه أحياناً"(125).
والمنزلة بين المنزلتين "أصل من الأصول الخمسة عند المعتزلة"، ويقصد به "‘عدم وصف الداعي أو مرتكب الكبيرة بالإيمان ولا بالكفر، بل هو في منزلة بينهما، ولكنه يخلد في النار"(126).
واستخدم ابن جني المصطلح ومفهومه في باب سماه (باب في الحكم يقف بين الحكمين)، وحاول فيه تطبيق هذا المبدأ الاعتزالي على بعض المسائل النحوية، نحو ما ذكره في تفسير "كسرة ما قبل ياء المتكلم في نحو غلامي، وأنها ليست حركة إعراب ولا بناء، أما كونها غير إعراب فلأن الاسم يكون مرفوعاً ومنصوباً وهي فيه، نحو: هذا غلامي، ورأيت صاحبي، وأما كونها غير بناء، فلأن الكلمة معربة متمكنة، فليست الحركة إذن في آخرها بناء"(127).
مصطلح النقض:
ويرى بعض الدارسين المحدثين أن "مصطلح النقض، من مصطلحات المتكلمين والمناطقة" ومعناه "تخلف الحكم مع وجود العلة المدعاة"(128).
واستخدم ابن جني النقض في بابين منفصلين في الخصائص أولهما": باب في نقض العادة: وأراد به أن يبين أن بعض الأفعال تعرف في حال معينة، فإذا غيرت صيغها انتقض حاله إلى ضده، ومن ذلك نقل الفعل من اللزوم إلى التعدي إذ "المعتاد المألوف في اللغة أنه إذا كان (فعل) غير متعد، كان (أفعل) متعدياً، لأن هذه الهمزة كثيراً ما تجيء للتعدية، نحو: قام زيد، وأقمت زيداً. فإن كان (فعل) متعدياً إلى مفعول واحد، فإنه يصير بالهمزة متعدياً إلى اثنين، نحو: طعم زيدٌ خبزاً، وأطعمته خبزاً.
ومن أحوال (نقض العادة) في الفعل أن ينقل إلى التعدي بالمثال لا بالهمز كما في (فعل)، نحو: كسي زيد ثوباً، فإنه يصير بالمثال: كسوته ثوباً(129).
وقد تأثر السيوطي بابن جني، فذكر الباب في الأشباه والنظائر في النحو، بعنوان: ورود الشيء على خلاف العادة(130).
والباب الثاني الذي استخدم فيه ابن جني مصطلح النقض هو (باب في الامتناع عن نقض الغرض).
وشبه ابن جني امتناع العرب "من نقض أغراضها بالبداء الذي تروم واليهود إلزامنا إياه في نسخ الشرائع وامتناعهم منه"(131).
ونقل ابن منظور عن ابن الأثير أن البداء بمعنى القضاء، وهو "استصواب شيء علم بعد أن لم يعلم، وذلك على الله غير جائز"(132).
وأكد ابن جني في معالجته لمصطلح البداء "أن نسخ الشرائع ليس ببداء عندنا..." ثم اتبع ذلك بقوله: "لأن فيه انتكاثاً، وتراجعاً، واستدراكاً، وتتبعاً. فكذلك امتناع العرب من نقض أغراضها"(133).
ويمكن حصر الحالات التي ذكرها ابن جني تمثيلاً لامتناع العرب من نقض أغراضها في اللغة بما يأتي:
1-    "امتناع العرب من "إدغام الملحق، نحو: جلبب، وشملل، وشربب... وذلك أنك إنما أردت بالزيادة والتكثير إلى البلوغ إلى مثال معلوم، فلو أدغمت في نحو شربب فقلت: شرب لانتقض غرضك الذي اعتزمته: من مقابلة الساكن بالساكن، والمتحرك بالمتحرك، فأدى ذلك إلى ضد ما اعتزمته، ونقض ما رمته، فاحتمل التقاء المثلين متحركين..".
2-    "امتناعهم من تعريف الفعل، إذ لا بد للفعل من أن يكون منكوراً لا يسوغ تعريفه، لأنه لو كان معرفة لما كان مستفاداً، لأن المعروف قد غني بتعريفه عن اجتلابه ليفاد من جملة الكلام".
3-       "امتناعهم من إلحاق (من) بأفعل إذا عرفته باللام، نحو الأحسن منه، والأطول منه..." (134).
4-    "امتناعهم من إلحاق علم التأنيث لما فيه علمه"، ومثل ابن جني على ذلك بالجمع من (مسلمة): مسلمات، " لم يقولوا: مسلمتات" لئلا يلحقوا علامة تأنيث مثلها.." (135).
5-   "امتناعهم من تنوين الفعل. وذلك أنه قد استمر فيه الحذف والجزم بالسكون لثقله. فلما كان موضعاً للنقض منه لم تلق به الزيادة فيه..."(136).




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق