الجمعة، 21 فبراير 2014

طبيعة وضوابط القرض الحسن في التشريع الإسلامي



طبيعة وضوابط القرض الحسن في التشريع الإسلامي
إن ما يعرف بالقرض الحسن - كعقد أو أداة أو سلوك مالي مميز- يصعب وجوده كنظام على الأقل في أي من النظم الاقتصادية المتعارف عليها في الفكر الاقتصادي الوضعي، سواء كان ذلك من حيث الحوافز التي تدفع المقرضين إليه أو من حيث الضوابط التي يمكن أن تحكم العلاقة بين طرفي هذا القرض (المقرض والمقترض) أو المعيار التي تستند إليها هذه الضوابط، بحيث تحقق هذه العملية الهدف منها، وذلك على نحو ما هو موجود في النظام أو التشريع الإسلامي.
ويمكن التعرف على طبيعة وضوابط القرض الحسن من المنظور الإسلامــي من خلال النقاط التالية([1]) :-
* التعريف بالقرض في اللغة :
القرض في لغة واصطلاح العرب يعني في جوهره قطع أو اقتطاع المقرض جزء من ماله لإعطائه إلى من يطلبه من المحتاجين إليه، على أن يقوم المقترض (طالب أو آخذ هذا القرض) برده عند قدرته على ذلك أو عند حلول أجل الرد (إن تم تحديد أجل معين لسداد هذا القرض بين طرفيه).
وعلى ذلك نجد أن لفظ أو مصطلح القرض هنا لا يتضمن كونه حسناً أو غير حسن (ربوي أو استغلالي أو فيه أكل أموال بالباطل بين طرفيه أو نحو ذلك) وإنما يتضمن مبادلة مالية (نقدية في الغالب المعاصر) بين طرفين هما المقرض والمقترض، وأنها تتم بشكل آجل حيث يدخل الأجل في هذه المبادلة كركن جوهري، ولا يمكن إتمامها بشكل كامل بدون أجل يتم الاتفاق عليه أو ربط المدى الزمني لرد القرض حال القدرة على السداد، حسبما يتفق طرفا القرض، أما كونه حسناً أو غير حسن فهذا ما يحدده التعريف الشرعي للقرض من المنظور الإسلامي.

* القرض من منظور الشرع الإسلامي: -
يمكن التعرف على المعنى الشرعي للقرض من خلال تتبع أدله مشروعيته من الكتاب والسنة بجانب ما يتعلق بهذه الأدلة من تفسير أو فقه لهذا المعنى وذلك على النحو التالي:

* القرض المشروع في النصوص القرآنية: -
ورد لفظ القرض في آيات القرآن الكريم أكثر من مرة، وهو ما يشير إلى أهمية دوره الشرعي في حياة المجتمع الإسلامي بشكل دائم، ومن النصوص القرآنية في هذا الشأن نجد :
قوله تعالى : (مّن ذَا الّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة - 245]، وقوله تعالى: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِيَ إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللّهُ إِنّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصّلاَةَ وَآتَيْتُمْ الزّكَاةَ وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً ) [المائدة - 12].
وقوله عز وجل : (إِنّ الْمُصّدّقِينَ وَالْمُصّدّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) [الحديد - 18]، وقوله تعالى : (إِن تُقْرِضُواْ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) [التغابن - 17]، وقوله تعالى : ( وَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَآتُواْ الزّكَاةَ وَأَقْرِضُواُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدّمُواْ لأنفُسِكُمْ مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً ) [المزمل - 20] .
ويلاحظ أن تفسير آيات القرض، تشير إلى ما ملخصه أن تقديم القرض الحسن لمن يحتاج إليه من الفقراء أو المحتاجين عموماً (احتياج ضرورة وطوارئ) هو من الأفعال أو السلوكيات التي يلتمس فيها المقرض الجزاء من الله تعالى، وذلك لأن المحتاج غالباً ما يكون ممن تجوز في حقه الزكاة أو الصدقات أو الكفارات وما شابه ذلك من وجوه الإنفاق الشرعي.
كما نلحظ أيضاً أن الآيات سالفة الذكر تشير إلى ثلاث ثوابت  قرآنية توضح بشكل دقيق القرض بمعناه الشرعي من المنظور الإسلامي وهي : -
أ –  أن الأصل في القرض أن المقرض يقدمه لله عز وجل، وهو بذلك يمثل أعلى مراتب عقيدة ملكية الاستخلاف، وسلوكاً عملياً لمبدأ عام بين العبد وربه في كل ما يتقرب به من أعمال صالحة ذات صلة بإنفاق جزء من المال وهو "اللهم أن هذا منك وإليك" .
ب – أن القرض الشرعي الذي يقبله الله تعالى ويجازي به الأجر المضاعف إنما هو فقط كل قرض حسن يقصد به وجه الله تعالى والرفق بمن يطلبه لتفريج كرب ألَّم به أو قضاء حاجة ضرورية لا تفي موارده الخاصة أو ما تلقاه من زكوات أو صدقات لقضائها، على أن يرد للمقترض مثله عند الميسرة أو عند حلول الأجل المتفق عليه، وذلك دون زيادة أو نقص في أصل أو قيمة هذا القرض([2]) .
ج – أن القرض الحسن هو البديل الوحيد عن ما يمكن أن نطلق عليه القرض الربوي، فالقرض إذا تم رده بزيادة أو نقص سواء كان عينياً أو نقدياً كان فيه ربا قد يأكله المقرض أو المقترض وكلاهما مؤاخذ هنا بالعقوبة التي توعدها الله الذين يأكلون الربا.
د – أن الإطار الشرعي للقرض الحسن هو الإطار التكافلي أو الاجتماعي في حياة المجتمع وذلك لأنه مخصص شرعاً لذوي الحاجات الضرورية التي لا تكفيهم مواردهم الخاصة أو مواردهم المستحقة من زكات ونحوها، وهو من أبواب التجارة مع الله تعالى القائمة على الإحسان ولا يمكن أن يكون من أبواب التجارة مع الناس، والتي تقوم على العدل .
ومن هنا كان التأكيد القرآني في أن التوبة عن القرض الربوي هو رد هذا القرض بعدالة مطلقة وفقاً لقاعدة " فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون" [البقرة – 279]، كما كان التأكيد الفقهي على أن يرد المقترض عين القرض ما لم تتغير قيمته زيادة أو نقصاً وإلا رد المثل أو القيمة إذا عين القرض مما تتغير قيمته([3]) .

* القرض المشروع في السنة النبوية : -
من المعروف في الجانب الشرعي الإسلامي أن السنة النبوية موضحة أو مفسرة لآيات القرآن الكريم ومطبقة لما تتضمنه هذه الآيات من عقائد وعبادات وأخلاقيات بالإضافة إلى كل ما تتضمنه من تشريعات تنظم حياة الناس فرادى أو جماعات بشرية وذلك على مستوى كافة العلاقات، سواء ما كان منها بين العبد وربه أو بين العبد والآخرين فرادى كانوا أو حكومات .
وفيما يتعلق بالقرض المشروع فإن السنة النبوية الشريفة قد جاءت فيه بتوجيهات عدة يمكن استعراض أهمها في الآتي([4]) :
قال e " ما من مسلم يقرض مسلماً قرضاً مرتين إلا كان كصدقة مرة"، وقال " كل قرض صدقة "، وكذلك قوله e " من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه"، وأيضاً " رأيت ليلة أسري بي على باب الجنة مكتوباً : الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر، فقلت يا جبريل ما بال القرض أفضل من الصدقة ؟ قال : لأن السائل يسأل وعنده، والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة" أخرجه بن ماجة والبيهقي، وعنه e في القرض العيني " من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" رواه البخاري ومسلم .
ومن الأحاديث سالفة الذكر يمكن ملاحظة الآتي([5]) :
أ –  أن القرض المشروع بالقرآن والسنة يمكن أن يطلق عليه (القرض، الدين، والسِّلف) وجميعها تمثل أخذ أو إعطاء مال أو سلع إلى أجل معلوم، سواء استناداً إلى المقدرة على رده أو الالتزام بالأجل كشرط تعاقدي بين المقرض والمقترض يلزم الوفاء به كأصل في هذه العلاقة، مما يسمح في ذلك بالتيسير على المعسر وكذلك التصدق من المقرض على المقترض بجزء من القرض أو كله، كما في قوله تعالى:(وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىَ مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدّقُواْ خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة - 280]، كما يمكن ضمان هذه العلاقة إما بالمستندات الكتابية أو الشهود أو الرهن أو جميع ذلك ( على غرار ما أوضحته آية الدين).
ب – تأكيد أن القرض أو الدين النقدي أو العيني يعمل في إطار التكافل الاجتماعي (المستقرض لا يستقرض إلا من حاجة) وليس وسيلة للكسب التجاري المعروف في الإطار التجاري أو الاقتصادي. فهذه المعاملة تمثل استثناءاً مشروطاً في حياة المجتمع، ولا يجوز أن يدخل فيه رباً الأجل (النسيئة) أو ربا الفضل، لأنه هنا يدخل في إطار علاقة تكافلية وليس علاقة تجارية بحتة .
ج – توضح السنة النبوية أيضاً أن من حسن القرض حسن الآداء أخذاً وعطاءاً دون شروط مسبقة، ومن دلائل ذلك في التطبيقات النبوية : حديث أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها) " قلت : يا رسول الله إن الجيران يستقرضون الخبز والخمير ويردون زيادة ونقصاً، فقال e لا بأس، إنما ذلك من مرافق الناس لا يراد به الفضل" أي لا يراد به رباً في الفضل. وفي رواية أخرى لمعاذ أنه e قال :" سبحان الله إنما هذا من مكارم الأخلاق، فخذ الكبير وأعط الصغير، وخذ الصغير وأعط الكبير، خيركم أحسنكم قضاءاً"([6])، وأخيراً ما رواه ابن رافع : أن رسول الله e استلف من رجل بكراً فقدمت عليه إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره فرجع إليه وقال لم أجد فيها إلا خياراً رباعياً، فقال e أعطوه فإن خير الناس أحسنهم قضاء"([7]).
ومن الجدير بالذكر هنا أن النص الذي يتم تداوله في بعض الكتب أو الدراسات الإسلامية "كل قرض جر نفعاً فهو رباً" على أنه حديث ضعيف (بلا سند) ([8]) ، أو قاعدة فقهية وهو ما عليه الإجماع([9]) ، على ضوء ما استعرضناه بشأن التوصيف الشرعي للقرض الحسن كنقيض أو ضد القرض الربوي، يمكن اقتراح تعديل هذا النص إلى "كل قرض جر نفعاً مشروطاً فهو رباً" وذلك لأن المقترض ينتفع من القرض في سد حاجته في الدنيا والمقرض ينتفع بالأجر على القرض الحسن في الدنيا والآخرة، فالقرض الحسن فيه منافع للطرفين على ألا يحدد أحدهما تجاه الآخر منفعة دنيوية مشروطة عند أخذ القرض أو رده، وهذا ما نراه متناسقاً مع ما ورد من آيات أو أحاديث بشأن القرض الحسن أو محاذير الوقوع في القرض الربوي.
ومن العرض السابق للتوجيهات النبوية في شأن القرض يمكن القول إن القرض الحسن شرع ليغطي ما بقى من قصور في جانب التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع أو الأمة الواحدة، وذلك باعتباره أداة اختيارية ندب إليها الشرع؛ مثله في ذلك ككل الصدقات الاختيارية (التطوعية) والتي لا يمكن تصور وجودها إلا في حق الفقراء أو المساكين والمحتاجين عموماً، لسد حاجة اضطرارية (استثنائية) تقدر بقدرها من جانب كل من الدائن والمدين، وذلك على الاستحباب في حق المقرض وعلى الكراهية والاستثناء الاضطراري في حق المقترض.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق